شفيق ناظم الغبرا
سعى قرار الرئيس دونالد ترامب حول القدس إلى تجريد الشعوب العربية والإسلامية من الرموز التي تحفزها وتخلق لديها حسها بذاتها وعمقها الثقافي والديني والمرجعي. فالقدس تربط الفلسطينيين والعرب مسلمين ومسيحيين، سنّة وشيعة ودروزاً كما تربط المسلمين غير العرب بفلسطين، وربما هناك من نصح ترامب بأن عزلها وتقديمها لإسرائيل يحسمان سؤال الأرض والمكان والمقدسات والانتماء. لكن قراره باعتبار القدس عاصمة إسرائيل الموحدة يعكس عنصرية المستعمر وعقلية المستوطن الذي يعتدي على الأرض والسكان ويعبث بحقوق الشعوب وتطلعاتها. موقف ترامب ينمّ عن رئيس محاصر بين تحقيقات عدة عن أعمال غير قانونية وصلت إلى بعض أقرب مساعديه. في قراره حول القدس، يسعى ترامب إلى حماية نفسه من خلال الاحتماء باليمين الديني والصهيوني الأميركي والإسرائيلي. في الوقت نفسه، تعبر سياسة ترامب عن الصراع الذي يخوضه مع الوجه الآخر للولايات المتحدة الذي يلتزم الحقوق والحريات ويتميز بالليبرالية والعالمية. قرار الرئيس الأميركي مقدمة لما يعتبره صفقة القرن حول الصراع العربي- الإسرائيلي. لكن ترامب في الوقت نفسه يسابق الزمن، لأن عهده هو الآخر قد يهوي بسبب التناقضات التي تحيط به.
الفريق المحيط بترامب يتقمص التطرف على كل صعيد. لقد وصلت عقلية الاستيطان إلى البيت الأبيض. فنائب الرئيس نفسه ينتمي لفكرة المسيحيين الجدد وكل الأبعاد الإنجيلية الخيالية المرتبطة بتجميع كل اليهود في فلسطين قبل بروز المسيح المنتظر، وكوشنر الصهيوني زوج ابنة الرئيس والمسؤول عن ملف الصراع العربي- الإسرائيلي مؤمن بالاستيطان ومتحالف مع نتانياهو ويؤمن بالصهيونية بسبب عقيدته الفكرية والدينية، وغرينبلات محامي الرئيس أصبح جزءاً لا يتجزأ من المجموعة المسؤولة عن سياسة البيت الأبيض تجاه الصراع العربي- الإسرائيلي، لكن غرينبلات هو الآخر يؤمن بالصهيونية بصفتها عقيدته وخلفيته الدينية وبحكم ذهابه إلى إسرائيل عبر السنوات بما في ذلك التطوع كحارس في إحدى المستوطنات. أما السفير الأميركي في إسرائيل دافيد فريدمان المتخصص في الإفلاس والذي عمل مع ترامب، عندما أعلن إفلاس شركات تابعة له، فهو الآخر صهيوني متعصب يعتبر اليهود المؤيدين لحل الدولتين والناقدين الاستيطان مثل منظمة «جي ستريت» الاميركية عملاء أقرب للنازيين، كما سبق له وأعلن أن الرئيس أوباما معاد للسامية. لقد اختار ترامب فريدمان سفيراً ليشرف على تصفية القضية الفلسطينية وليعمق التحالف مع إسرائيل.
لكن شيلدون اديلسون وهو رجل أعمال وبليونير صهيوني، ضغط بلا هوادة على الرئيس الأميركي لإعلان القدس عاصمة لإسرائيل. وقد سلم هذا المتنفذ الرئيس ٢٥ مليون دولار أثناء الحملة الانتخابية ثم تبرع له بخمسة ملايين دولار للقيام باحتفالات التنصيب، وذلك مقابل التزام ترامب بنقل السفارة للقدس والاعتراف بها عاصمة موحدة أبدية لإسرائيل. وقد نشرت أكثر من صحيفة عالمية وأميركية أن أديلسون غضب وعبّر عن امتعاضه عندما تأخرت هذه الخطوة من جانب الرئيس. ويذكر أن الرئيس سعى في الوقت نفسه إلى التغطية على قانون تم تمريره منذ أيام حول الإعفاء الضريبي لأصحاب رؤوس الأموال الكبرى في الولايات المتحدة. لقد كسب أديلسون نفسه بلايين عدة من الإعفاءات الضريبية، كما حقق كوشنر وترامب مئات الملايين بسبب القانون الخاص بالإعفاءات الضريبية.
لقد شكّل قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل من جانب الولايات المتحدة، في عالم عربي بلا قواعد وبلا مرجعيات، بعداً كاشفاً طبيعة السياسات الأميركية في عهد ترامب، لكن إعلان ترامب الاستفزازاي أعطى دفعة للقضية المراد إنهاؤها: إذ تحولت قضية فلسطين من القضية العاشرة على الأجندة الإقليمية والعالمية الرسمية إلى القضية الأولى. في القدس، كما في فلسطين التي تحيط بها من كل مكان بدأ الصراع ومنها يتضح مساره وعبرها يتحدد مستقبله.
لم يحسب الرئيس ترامب أن الفلسطينيين والعرب والمسلمين على ضعفهم وانقسامهم وتردي أوضاعهم يملكون عناصر قوة كثيرة. فبالسرعة ذاتها التي أعلن ترامب فيها القدس عاصمة لإسرائيل برزت الإدانات والحراكات وانتفض الناس في فلسطين، وجاءت دعوة تركيا أردوغان لقمة إسلامية لمنظمة التعاون الإسلامي لتعكس الأجواء الجديدة، وجاءت إعلانات رفض شخصيات دينية مصرية للقاء بينس نائب الرئيس، كل شيء يؤكد أن العمق العربي بشقه المسيحي والمسلم والعمق الإسلامي لم يتخلّيا عن روح الدفاع عن النفس.
تناسى الرئيس الأميركي أن الفلسطينيين يمثلون ٦ ملايين إنسان يعيشون على الأرض بين غزة والضفة الغربية وفلسطين ١٩٤٨. لم ينتبه أنه يوجد في القدس ٣٠٠ ألف مواطن فلسطيني لديهم منازل وأراض وأملاك وأن التخلص منهم سيكون عملية صعبة ستواجه بالعراقيل والنضال. نسي الرئيس أن في الضفة الغربية سلطة فلسطينية على رغم ضعفها تمثل استمراراً لنهج البقاء على الأرض والتمسك بالقدس وأن لديها قاعدة شعبية ضمن تصور لآفاق دولة فلسطينية عاصمتها القدس. لم يستوعب الرئيس أن عدم تحقيق السلام العادل الذي يتضمن القدس يترك آثاره على السلطة الفلسطينية. فإن حلّت السلطة الفلسطينية نفسها على سبيل المثل، ستتورط إسرائيل في وضع شائك، وإن أوقفت السلطة التعاون الأمني، كما فعلت في هبة الأقصى في تموز (يوليو) الماضي، ستجد إسرائيل صعوبة أكبر في التعامل مع الوضع الفلسطيني. وتناسى ترامب أن في غزة مليوني فلسطيني، على رغم الأوضاع الصعبة، هناك جيش القسام المكون من ٦٤ ألف مقاتل، والذي أثبت حساً متطوراً بالعمل العسكري لا يقل عن أكبر الجيوش. حروب غزة على مدى السنوات العشر الماضية أكدت حالة التوازن، ففي غزة خلية نحل عسكرية. وتناسى الرئيس، وهذا هو الأهم، وجود أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني في أراضي فلسطين ١٩٤٨ ممن يعيشون في حيفا ويافا وعكا والناصرة وام الفحم، وأن هؤلاء لن يقبلوا تهميشهم تحت مسمى يهودية الدولة وتهويد القدس. هذه الفئة ستقاوم من أجل حقوقها وستتواجه مع العنصرية على كل صعيد.
وربما لم يخطر ببال الرئيس الأميركي أن العالم يزاداد ضيقاً من إسرائيل والصهيونية وأن تيار مقاطعة إسرائيل يعم دولاً ومجتمعات كثيرة يهالها ما يقع في فلسطين من انتهاكات باسم الغرب تارة وباسم اليهودية تارة أخرى، بل يزداد عدد اليهود الناقدين الصهيونية في كل مكان. كل هذه العناصر تمثل حالة قوة للقضية الفلسطينية، فالحس الإنساني لا يقبل الاحتلال والاستيطان ولا يتقبل أخذ أملاك الآخرين، فمقاومة ذلك طبيعة إنسانية لم تتوقف منذ بروز حركات الاستقلال ضد الاستعمار في القرن العشرين.
لقد نسي الرئيس عناصر أخرى في الموقف؛ فإسرائيل منقسمة على نفسها بين يهود متطرفين وآخرين معتدلين، بين متدينين بتعصب وغير متدينين علمانيين، كما وصل الانقسام إلى يهود العالم ويهود إسرائيل حول تعريف من هو اليهودي، إذ لا تعترف إسرائيل الرسمية بالمدرسة اليهودية ذات البعد الإصلاحي المرن التي تمثل غالبية يهود الولايات المتحدة. إسرائيل في نهاية الأمر دولة لديها مشكلاتها الاقتصادية، بسبب المبالغة في تكاليف الأمن والجدار الإسمنتي الفاصل وحصار غزة وسباق التسلح والاحتلال والعنصرية والحروب. للعنصرية والاحتلال تكلفة. لهذا، فالأزمات في إسرائيل قادمة، وتكلفة الاحتلال سترتفع كما سترتفع معها تكلفة تهويد القدس. وليست قوة إسرائيل العسكرية وقوة جيشها اليوم كقوتها في الستينات، إذ يكفي أن قوى أقرب للميليشيا في لبنان («حزب الله» في ٢٠٠٦ مثلاً) و«حماس» و«فتح» في فلسطين استطاعت مواجهتها وتحدي عقيدتها الأمنية والعسكرية.
إن أهم ما نسيه الرئيس ترامب في بيانه الإمبريالي أن الشارع العربي، على رغم كل انقساماته الفئوية والطائفية، هو شارع مقدسي يتفاعل مع المسألة الفلسطينية بصفتها امتداداً لعقيدته وكرامته. في السابق، صعدت القومية العربية كما الإسلام السياسي حول فلسطين وقضيتها، واليوم تصعد حراكات جديدة ذات عمق شعبي عربي تلتزم الحقوق والكرامة والعدالة في فلسطين وفي بلاد العرب.