كتب: عدلي صادق:
من خلال ما يَرشَحْ من حكاية تصاريح العمل في إسرائيل، يتجمع في الإناء، صديدٌ آخر بمزيج من قيح ودم، يرمز ـ كما كل صديد ـ إلى وضعية الاندفاع إلى حافة الجُرف والإنهيار!
هناك مبالغ تقدير، يتقاضاها وسطاء استصدار التصاريح، الذين يعملون مع المنسق الفلسطيني الأول. ويقال إن هذه المبالغ تتراوح بين 2500 وأربعة آلاف شيكل مقابل التصريح الواحد، من الفقير المضطر للحصول على قوت أسرته بعرق جبينه، من خلال العمل في إسرائيل. فالمنحة القطرية، وغيرها من الصدقات، لا تغطي مصاريف أية أسرة.
ظاهرة الاستغلال البشع هذه، تتجاوز أفعال الجواسيس عندما يطلبون مقابلاً مادياً لتدخلاتهم لتسهيل أي أمر على مواطن. فلم تكن “روابط القرى” التي أسسها مصطفى دودين في العام 1979 ستهبط إلى هذا المستوى الوضيع لو أنها استمرت. فقد أسقطت منظمة التحرير الفلسطينية ذلك التشكيل المتعاون مع الاحتلال، وكان هدفه المُعلن مساعدة الناس على مواجهة أكلاف حياتها. ولكون هدفه غير المعلن، شطب منظمة التحرير؛ لم يكن مستعداً لتوجيه طعنة نجلاء لصدره لكي ينتحر من خلال تغطية أفاعيل سماسرة وطفيليين. اليوم بلغت الأوهام والوقاحة ذروتها، عندما جرت تسمية كبير المنسقين، مرشحاً لحركة فتح لكي يتسلم موقع أمانة سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. ففي أقل المعاني، تكون هذه التسمية، معادلاً موضوعياً لجعل المنظمة، أقل قيمة من “روابط القرى” المذمومة، على مستوى الكياسة الاجتماعية.
لكن ظاهرة اعتصار الفقير من طلاب العمل والتسهيلات، له في السياسة أكثر من معنى وضيع. فالمسألة أولاً، تعكس نوعاً من الممارسة الاحتلالية، حين يصبح ضباط الاحتلال، الذين يمتنعون عن إصدار التصاريح أو الموافقة على التسهيلات، ويرفضون إصدار التصاريح للعمال؛ كرماء ومانحين، ولا يُسألوا عن مقاصد جفائهم، قبل أن يتولى مال السُحت تطرية الجفاء، بينما الدراهم، التي يدفعها الفقير المُعدم، يكون استدانها لكي يسددها من حصاد عرقه. وهذه ممارسة تنتمي إلى الحقبة الاستعمارية في الهند وإفريقيا منذ القرن الثامن عشر، حتى زوال شكل الاستعمار القديم.
ولظاهرة الاعتصار، معنى ثانٍ بالغ الخطورة في السياسة، وهو تطبيع الوعي الاجتماعي مع فكرة تختصر القضية وتطوي المظالم وتتغاضى عن الاستيطان، بشفاعة الرائحة المعيشية لجزء من الشعب ومن قوة العمل. وهذا ما يُراد أن يكون عليه سياق القضية. بل إن هذا هو نفسه، الذي يقوله ويكرره قادة الاحتلال، الذين يتقمصون ثوب الإنسانية، فيستنكفون عن كلام السياسة، ويجزلون الوعود على تحسين أحوال الناس، ويكررون هذا الكلام كلما سمعوا كلمة عن وجوب إنهاء الاحتلال العسكري الأخير في العالم.
ولظاهرة الاعتصار هذه، معنى ثالثٌ، يتطابق ـ للأسف ـ مع إحداثيات حركة “المقاطعة” وقراءاتها: رمي الناس، بفقرائها وأجيالها من الشباب ومرضاها الذين يتوسلون العلاج، لكي تتلقى مصيرها. ولهذا المنحى براهينه المشهودة، من خلال عدم الاكتراث للعوز والفاقة في المجتمع، وترك المرضى يموتون بذريعة عدم توفر العلاج، وبمنع التنمية والتشدق بالأكاذيب عنها، ومحاولة تعلية شأن العناصر التي أصابتها لوثة التمادي في جمع الثروة على حساب الناس، حتى وصل الأمر إلى تسمية كبير المنسقين، لكي يصبح أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.
صحيح أن منظومة الاعتصار لن تفلح في سعيها إلى وضع منظمة التحرير في جيبها، وصحيح أن فتح لن تبقى بهذه الشاكلة، تعتليها وتختزلها قطعة خيش، يسمونها “اللجنة المركزية” لكن الصحيح أيضاً هو أن يسمع الصرخة، المعنيون الضالعون في الضلال، ويسمعها الفلسطينيون جميعاً: لن يمر وكلاء التصاريح، وسيكون إسقاطهم أوسع مما تستوعبه الهاوية، رُغماً عن الاحتلال وعن المصاعب المفتعلة، وعن أنوفهم. فالتاريخ ينحاز للشعوب لا لمن يعتصرونها.