كتب: توفيق أبو خوصة:
لماذا ينتظر الكل الوطني أن تقع الفأس في الرأس بغياب الرئيس أبو مازن عن المشهد السياسي الفلسطيني، وكل العيون شاخصة تتجاذبها التساؤلات بلا إجابات، وتدور جميعها في السر المكنون ماذا بعد الغياب والأعمار بيد الله، ففي زمن الخالد أبو عمار كانت الأمور واضحة لا لبس فيها بما يتعلق بشخص المرشح لخلافته والآليات الدستورية المحددة لهذا الاختيار وهي الأهم، بالرغم من القناعة الوطنية أن الفراغ الذي تركه الزعيم الخالد أكبر من أن يملأه أي كان الشخص الذي يتولى خلافته في قيادة الشعب الفلسطيني.
وفعلا تم انتخاب الرئيس أبو مازن الذي رشحته حركة فتح للمواقع القيادية الأولى في حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية وتمت إجراءات التنصيب بسلاسة وهدوء بلا منغصات، بخلاف كل التوقعات القائمة اليوم التي تعبر عن حالة التيه الملتبسة وتضع الجميع في حيرة من أمرهم، في ظل الحقائق الماثلة بأن الرئيس أبو مازن بات في أواخر الثمانينات من عمره وأوهنت جسده الأمراض والشيخوخة مما فتح المجال لظهور الإشاعات المتتالية التي تفيد بأن وضعه الصحي خطير أو حتى نقل أخبار عن وفاته تتسلل للإعلام بين الحين والآخر.
ورفض أبو مازن طيلة فترة حكمه منذ انتخابه في مطلع 2015 أن يكون له نائبا، ولم يتوانى عن تعطيل الحياة النيابية وحل المجلس التشريعي بطريقة غير دستورية، و إفراغ منظمة التحرير الفلسطينية من مضمونها التمثيلي الجامع ومصادرة دور اللجنة التنفيذية التي لم تعد ذي صلة و تحولت إلى ملحق باهت دون أي أهمية في صناعة القرار الوطني، أما حركة فتح بكل ما لها وعليها فقد استفرد الرئيس أبو مازن بقرارها و شطب أي دور لمؤسساتها القيادية وتغول على كل من فيها بالإقصاء والفصل والطرد والإرهاب المادي والمعنوي وجعلها في أسوأ حالاتها لا تملك من أمرها شيئا في الواقع، كذلك الأمر بالنسبة للسلطة الوطنية التي تحولت إلى عصا أمنية أكثر منها أي شيء أخر لتعزيز وحماية الرئيس أبو مازن وسياساته العدمية.
وذلك فرض منطق الأجراء لا الشركاء في علاقته مع كل المكونات القيادية على الساحة الفلسطينية، يمنح من يريد ويمنع من يريد، يبعد من يريد ويقرب من يريد، وفق حساباته الشخصية المختلفة، كما تشهد القضية الوطنية تراجعا خطيرا إلى ذيل الاهتمامات في الأجندات الإقليمية والدولية مع تصاعد حدة وشراسة العدوان الصهيوني على كل المستويات، و زيادة التغول الاستيطاني والتطرف العنصري والتطهير العرقي والتهويد ومصادرة الأراضي والإسراف في جرائم القتل والاغتيال والاعتقال، ولا نغفل تحقيق العدو الصهيوني العديد من المكاسب المتواصلة جاءت عبر بوابة التطبيع العلني مع بعض الدول العربية التي شكلت تحولا مفصليا في المعادلة القومية وتعاطيها مع القضية الفلسطينية التي كانت القضية المركزية للأمة العربية.
حري بنا القول أن الرئيس أبو مازن يترك الكل على أطلال من الدمار والخراب والانحلال و التشرذم غير المسبوق، وكأنه يقول أنا ومن بعدي فليكن الطوفان، أما خطوته الأخيرة بإصدار قرار يكلف فيه وزير الشؤون المدنية وعضو مركزية فتح ( م / 7 ) حسين الشيخ للقيام بمهام أمين سر اللجنة التنفيذية فهي ليست أكثر من إشارة لمن يريد أن يخلفه في حال وقع المحظور، و يأتي هذا القرار الذي لا محل له من الإعراب الوطني أو القبول الفتحاوي أو الرضي الجماهيري ليشكل إضافة عبثية جديدة في الساحة الفلسطينية بلا أي رصيد، إذ أن الشعب الفلسطيني هو مصدر السلطات و صاحب الحق في اختيار من يقوده بالانتخاب الحر عبر صناديق الاقتراع و الخيار الديمقراطي.
أمام هذا المشهد السوداوي غير المبشر، لماذا يسيطر الصمت والوجوم على الجميع، ألا يستحق الأمر التداعي المسؤول والتحرك الفاعل قبل وقوع السقوط الحر للمشروع الوطني الفلسطيني والقضية الوطنية، وتركها فريسة سهلة للتدخلات من القاصي و الداني، وهل فعلا الشعب الفلسطيني عاجز عن المبادرة بالتصدي للأخطار المحدقة بمستقبله، و أين قواه السياسية والمجتمعية الحية مما يجرى ومتوقع أن يحدث إن لم يكن اليوم فغدا، أم أن هناك مشاريع خاصة بديلة ستطرح في حينه من منطلق انتهازي واستغلال التطورات اللاحقة لحسابات غير معلومة حتى الآن، حيث تتقاطع المصالح الحزبية أو الشخصية مع المصالح الإسرائيلية والإقليمية وما يجري من إعادة ترتيب للأوراق في المنطقة، وهنا لابد من القول بأن كل النتائج المتوقعة ستكون إلى حد كبير مرهونة بموقف حركة فتح وطبيعة تعاطيها مع المرحلتين الحالية والمقبلة و قدرتها على مغادرة دائرة المواقف العاجزة وتقديم ما هو جديد و تستعيد ذاتها وتلملم أشتاتها و تستعد كما يجب لحماية المشروع الوطني من الانهيار والاندثار.
ما يزال هناك متسع من الوقت للمبادرة وتكثيف الجهد على غير صعيد للخروج من هذه المتاهة القاتلة، والخيار الأكثر قبولا ومصداقية الإقرار سريعا بلا تأخير، والتسليم بضرورة إجراء الانتخابات العامة ودفع الرئيس أبو مازن بكل الطرق الممكنة بإصدار قرار تاريخي لتحديد موعد قريب لإجراء أو استكمال العملية الديمقراطية من حيث توقفت في العام الفائت لانتخاب المجلس التشريعي الذي يوفر ضمانة كاملة بانتقال سهل وسلس للسلطة في حال غياب الرئيس أبو مازن عن المشهد السياسي، في نفس الوقت الدعوة والتحضير عاجلا وليس آجلا لمؤتمر عام توحيدي للحركة يشارك به أعضاء اللجنة المركزية والمجلس الثوري الحاليين وأهل الرأي والخبرة من الكادر والقيادات والكفاءات الفتحاوية يعيد لحركة فتح هيبتها وعزتها وروحها الكفاحية وعنفوانها الوطني ودورها الطليعي في مواجهة التحديات الجسام، فإذا صلحت فتح صلحت الحالة الوطنية، كما أن القوى السياسية والمجتمعية يجب أن تأخذ دورها وتتحمل مسؤولياتها التاريخية بممارسة كل أشكال الضغط الجماهيري والسياسي للدفع باتجاه إعمال الخيار الديمقراطي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان، بدلا من التباكي على اللبن المسكوب أو العنتريات الممنوعة من الصرف، الأمس قد فات والغد لم يأت بعد، أما اليوم لابد مما ليس منه بد، فإما الآن و إلا فلا، فلسطين تستحق الأفضل… لن تسقط الراية.