كتب عدلي صادق: الأرجح حُكماً، أن مشاعر شتى، مختلطة حيناً، أو متضاربة أحياناً؛ تنتاب رئيس السلطة الفلسطينية، وهو يُقلّب الخيارات، ويبحث عن الأنسب منها، قبل أن تفرض الخاتمة نفسها علية وعلى مجموعته الصغيرة. فالرجل، وعلى الرغم من “قفزة الضفدع” التي “أنجزها” في انعقاد ما يسمى “المجلس المركزي” إلا أن الارتباك ما يزال يتفشى ولم يسلم منه الترزي الساهر على تفصيل القوانين ومراسيم القرارات، ولا مجلة “الوقائع الفلسطينية” أو الجريدة الرسمية. فقد حدث الاستعجال في الإعلان عن طي المنظمة في جيب إحدى إدارات السلطة، ولما انفجرت ردود الأفعال المستنكرة، كان عادياً في سلطة عباس الإعلان عن مرسوم بقرار، سقط سهواً، ما أوجب إعادة الصياغة.
من خلال انعقاد “المركزي” وضع عباس مقاربته ما قبل الأخيرة في تشكيل “اللجنة التنفيذية” المفترضة، وكذلك الرئاسة المفترضة، لبرلمان الوطن والمنفى. إلا أن القفزة، بدت كوميدية من خلال عنصر الاستهبال الفاقع، في القرارات التي تلاها عزام الأحمد. معنى ذلك أن القفزة، لن تحقق لعباس اطمئناناً، بحكم كون المجلس نفسه، يفتقر الى الأهلية وليست له مصداقية، سواء بتأثير تجربة الرأي العام مع قرارات سمعها في ختام انعقادات سابقة، أو من حيث تركيبة هذا المجلس نفسه، وأغلبها ملفق وفاقد للبُعد التمثيلي، وليس له تأثير، في السياقات الحقيقية للسياسة والأمن والاقتصاد. فـ “مركزي” عباس، في لغة التداول، محض عنوان لإطار قديم، كانت له بعض حيثيات، ثم تولى عباس الإجهاز عليه، مع إبقائه لتأدية دور المُحلل عند الاحتياج، مع مراعاة اللعب بعضويته لضمان تأديته الوظيفة المرتجاة.
أغلب الظن أيضاً، أن عباس ما يزال مشدوداً بين خياراته الأخيرة بخصوص من يرثون تجربته؛ وإحساسه الفطري بأن حكومة إسرائيل، وهي الطرف الذي يحسم وفق المعادلات التي اختارها عباس لنفسه؛ لن تترفق به ولن ترعى له شيخوخة. فهي تسلمت من سابقاتها، كل ما قدمه لإسرائيل، وتعرف أنه لم يأخذ شيئاً سوى التكتم على تفاصيل تجربته. بالتالي هي ليست ملزمة حياله بأي قدر من الاحترام. ثم إن قادتها الجدد، الأكثر استعلاء وتطرفاً، لم يتعاملوا معه أصلاً ولم تتأسس بينهم وبينه علاقات شخصية توجب المجاملة. فمنذ يومهم الأول في الحكم، اعتبروه غير ذي صلة، وأكدوا على أنهم غير ملزمين بتحمل لغته السياسية، ولا بالبناء عليها، ولا الاعتراف له بالجدارة في أن يكون شريكاً. بل يعتبرونه شخصاً بلا موضوع، وهم غير معنيين بالحديث مع معاونيه في أي أمر خارج الشؤون البلدية والالتزامات الأمنية ولم يكن هكذا التصرف معه، لو أنه احترم نفسه وأعطى جزءاً من اهتمامه لحركة فتح وللطيف الوطني وللمجتمع، وحاول التريث في عمليات التدمير التي طالت كل شيء. لذا ليس من التجني القول أنه وضع نفسه في هذا المأزق، فإن حاول الاستئناس بإطار أو مؤسسة، للوصل مع المجتمع ومع الطيف السياسي؛ لا يجد في حوزته سوى بقايا عناوين قديمة بلا مضامين، يتكئ عليها وهي لا تحتمل. وإن حاول تأسيس خطوط اتصال مع القوى الاجتماعية، سرعان ما يطالع حجم مشكلته، بتأثير فساد الإدارة وفساد اللغة وانحراف المفاهيم، وغياب العدالة، وسيرى بنفسه مع الرائين، فشله الشامل، ويستشعر العجز التام، عن القدرة على المبادرة، ولن يجد سوى محاولة التغطية على هذا الواقع بسيل مما يسمى “المراسيم بقرارات” أو بسيل أعطيات الأوسمة، من نوع النجمة الكبرى أو الوشاح الأكبر أو وسام القدس!
فكيف لمن تعمد تحييد الكتلة الشعبية، والتنمر حتى على الشركاء في منظمة التحرير المفترضة ، وإنكار وجود قوى وازنة في الساحة؛ أن يعثر لنفسه على سند. فلو لجأ للحد الأدنى من المأسسة وحافظ على شيء من الأطر الدستورية، وراعى الحد الأدنى من رشاد الحكم ونزاهته؛ لوجد لنفسه موالين كُثر من النوع الحميد الذي لن يغدر به. وفي الحقيقة هو ابتلع أكاذيب المراءاة والموالاة الخبيثة، واستقر على خياراته لكنه لن يحرز اطمئناناً. فالموالي رياءً لن يرحمه حالما يدير ظهره ويمضي، الى سرير أو قبر.
المفارقة المثيرة، أن العدو نفسه، بخبرته الطويلة ومعرفته العميقة بكيمياء السلوك الإمبريالي؛ لن يرضى بخيارات عباس في الورثة، لأنها لا تفيده لا بمسموعاتها الاجتماعية ولا بغطرستها وبذخها وكذبها. فالنمط الذي تمثله، مستفز ولا يساعد على أخذ الناشئة الفلسطينيين الى ذروة السكينة وأقصى النسيان لمدركات القضية. فسحناتهم وحدها، تؤجج الإحساس بالمظلومية، والرغبة في تظهير الشعارات المحملة بالأمنيات القصوى، من النهر الى البحر!
ربما يظن عباس، أن “قفزة الضفدع” كانت بارعة وموفقة ولها قابلية الاستمرار، لكنه مخطئ جداً، على النحو الذي لم يكن سيحدث لو كان الرجل أقل شيخوخة.