بقلم عدلي صادق:
رافقت الجماهير الفلسطينية، الفتى أنس أبو رجيلة إلى مثواه الأخير. كانت ضخامة الحشد، على ما فيها من جموع غفيرة ودلالات، مجتزأة، تكاد تقتصر على الناس في قرى شرق خان يونس، بمعنى أن الجنازة ستكون أكبر بكثير، لو كان هناك تدابير وتحضيرات، لإفساح المجال لمشيعين من سائر البلاد، لكي يشاركوا في موارة أنس أبو رجيلة تراب الوطن الذي أحب. على الرُغم من ذلك، كان مشهد يليق بالزعماء الميامين ذوي المكارم القصوى والفضل البليغ عندما يُشيَّعون، فتكون كل جنازة، شهادة عِرفانَ، من الجماهير الوفية، لكل واحد منهم. لكن أنس لم يسع الى ذلك ولم يخطر له عى بال!
أنس أبو رجيلة، لطيف المُحَيّا، رائق الطلّة، لم يغدر به البحر وحسب، وإنما غدر به كل حُراس الزمن الرديىء، الذين تعددت حلقاتهم على امتداد الرحلة، وبطول المسافة من شرق خان يونس الى غرب تركيا وشرق اليونان. وفي موته تكثفت المعاني، إذ اختصرها، في شخصه المتواضع، قتيل الرحلة عاشق الحياة، هو ورفيقه نصر الله الفرا (أبو أدهم).
فقد اختزل الشهيدان كل أسماء الشباب الحيارى والمألومين الذين أضناهم البؤس فارتادوا جهات الدنيا الأربع، براً وبحراً وجواً، بحثاً عن فُرص الحياة، لا عن مخاطر الموت، وتطلعاً الى الخروج من دائرة وأراجيف السياسات العقيمة، ومن يديرونها، ومعهم الطبالون والمزاودون والمتظاهرون بالحنكة وبالتشدد، سواء كانوا من ثرثاري “المشروع الوطني” أو المبشرين بالزلازل، ومن بين هؤلاء من يطرحون مقاربات الخداع، ويُكثرون من ترديد عبارة المصالح الفلسطينية العُليا، أو يعرضون فقرات مسرحية تراجيدية كاذبة، تذم وثيقة الإستقلال التي كتبها محمود درويش، وقرأها الرمز الإستقلالي ياسر عرفات، في منتصف نوفمبر 1988 بجريرة تفريطها، ويحمِّلونها ما ليس فيها، دون أن يحمِّلوا أنفسهم أدنى واجب نبيل، على مستوى حياة الناس!
كان النبي محمد عليه السلام، يحث الناشئة على الطموح وينبه الى عوار الرضوخ والرضا بالبؤس، وهو القائل:”إن الله يعجب على شابٍ ليست له صَبْوَة”. وإن استحال البؤس أذىً يومي يصعب في الحصول على لقمة الخبز؛ تصبح الهجرة المؤقتة، لمن يستطيعها، ضرورة رآها عليه السلام واجبة، فدعا المألومين الى وُجهة فيها ملِكٌ لا يُظلم عنده أحد. وكانت تلك “مملكة أكسوم” في إقليم “تغراي” شمالي الحبشة. أيامها، كان التطلع أساسياً الى العدالة في أرض الجزيرة العربية، ويثابر صحيحو الإيمان على إحراز التمكين، بإعلاء شأن رهطهم قبل التحول الى إعلاء شأن رسالتهم في العالمينَ!
كان أنس أبو رجيلة، واحد من الشباب الذين يمموا وجوههم صوب بلجيكا وسواها، بعد أن سمعوا من آخرين أن هناك أُفق ويمكن الحصول على الحد الأدنى من متطلبات الحياة الآمنة. وبدا “النجاشي” البلجيكي عنواناً بصرف النظر عن اسمه أو ديانته. الأهم هو أن لا يُظلم عنده أحد. بعدئذٍ لا حاجة لأن يعرفوا أن كان اسمه “نجاشي” أو لويس فيليب ماري، وكلاهما مسيحيان منحازان لكرامة الإنسان.
إن كل إنسان، من الجموع الحاشدة التي شيعت شهيدنا أنس، ومن الأخوات والأمهات اللائي مارسن التفجع عليه في البيوت؛ رأى في أنس حياة شعب يتعذب، بل رأى في الصندوق، نعشه المؤجل. لاذ كان الخروج الإغراقي الحاشد، رسالة، ليس لمن يهمهم الأمر، وإنما لمن لا يهمهم الأمر!