عدلي صادق لبرنامج “همزة وصل” على شاشة “الكوفية”: السلطة والوكالة
لعلها اللحظة المناسبة، للعودة الى كلام قديم، عن حال السلطة وما يتصل برزقها، وحال وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وما يتعلق بكلفة معيشتها. فالإثنتان أصبحتا في مأزق، ولكل منهما رمزيتها ودورها، وإن كان إقتدار الإثنتين، يعتمد على آخرين، منهم الكريم ومنهم اللئيم!
بالنسبة للأولى، وهي سلطتنا التي كنا وما زلنا نتمنى لها الإزدهار، بحكم صلة واجباتها بشروط التحقق الكياني الوطني على أرض الآباء والأجداد؛ فقد نَفَدَ مخزون كلام الناصحين لها، بأن تتواضع وأن تتحلى بالزهد والرشاد، لأن المال الذي في أيديها، هو مال مجتمع فقير، يُفترض أنها اِئْتُمِنَت عليه، وكانت أحوج من غيرها الى حُسن التدبير، على مستوى الصرف والإستثمار الإجتماعي أو التنمية، والتحسب لغوائل الزمن. وبالنسبة للثانية، أي الوكالة التي أنشأتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في سنة 1949؛ فهذه كانت منذ يوم ولادتها، معرضة لهجمات إسرائيل، التي اعتبرتها أداة تذكير بمظلومية اللاجئين الفلسطينيين، واعتبرت قرار إنشائها، واحداً من القرارات البغيضة التي تتخذها الجمعية العامة للأمم المتحدة، المتحررة من حق النقض “الفيتو” وفيها “أغلبية أوتوماتكية منحازة للفلسطينيين” حسب الوصف الإسرائيلي لها.
مع تنامي جموح إسرائيل وغطرستها، تضاءلت فاعلية السند الدولي، على المستويات الرسمية. ومع توصل الدول المانحة، الى قناعات، بأن بئر السلطة بلا قاع، ولا يراكم تنمية ولا إدارة، ولا عدالة؛ تذرعت كلها بأن دافعي الضرائب في بلدانها، يسألونها عن جدوى ما تبذله الحكومات للسلطة الفلسطينية. ومع التسليم بأن هذه ليست ذريعتها الوحيدة للتراجع عن التزاماتها، وأن تردي السياسات هو الذريعة الأساس؛ نصبح أمام سؤال نوجهه لأنفسنا: كيف ولماذا نشأت الذريعتان الفرعية والرئيسة؟!
وكالة “أونروا” نالها نصيبها من التَخرصات الفلسطينية الشعبية، وتحميلها سياسياً ما لا تحتمل، على النحو المسموع من خلال لغة التشدد اللفظي. قيل عنها بأنها أداة تخدير، وأنها ملعوب تاريخي، وأن أداءها مُريب، وكأنها نشأت أصلاً كحركة تحرر، أو ساعدت على الغيبوبة، وهي التي في ظل خدماتها، تعلم الفلسطينيون حتى أصبحوا جيشاً من الكفاءات يبني في دول أخرى، ويرفع مستوى معيشة الأهل. فلو إن الوكالة، لم تُوجد أصلاً، لكان الكلام قد اتجه الى مطولات عن تخلي ونكران الأمم، وعن تكريس المظلومية، وترك الفلسطينين بين اشداق بؤس أعتى، بل ترك قضية اللاجئين للنسيان. لكن أصحاب الكلام أنفسهم، سرعان ما يغيروا الوجهة، كلما تعرضت الوكالة للإستهداف، فيقال إن من يستهدفونها يريدون شطب قضية اللاجئين. وفي الحقيقة هذه سمة من سمات خطابنا التاريخي الذي يتعاطى الشيء ونقيضه، ويلوم كل الأطياف، وينسى نفسه. فوكالة الغوث، قالت في معرض التعريف بنفسها، إنها تأسست سنة 1949 بهدف تقديم المساعدة الإنسانية للاجئين الفلسطينيين، وأنها “تُعنى بهم تحديدا، ومهمتها تقديم خدماتها لهم، في التعليم والصحة والخدمات الإجتماعية والبُنية التحتية، إلى أن يتم التوصل إلى حل لوضعهم السياسي الفريد”.
بسبب هذه الوجهة، تعرضت الوكالة للهجمات الضارية من الصهيونية ومن كل الذين يساعدون على تمرير خطابها. حوسبت وتُحاسب، على عبارات قصيرة، إعتمدتها كلما تحدثت عن نفسها، وهي أن هناك مشكلة لاجئين لا بد من حلها!
أما السلطة، فقد تعرضت لعملية تصفية ممنهجة لخطابها السياسي العام. تُرك السلطويون المُتفردون، لكي يأخذوا راحتهم في الكلام، واشتغل المعنيون بالتصفية السياسية، لإفقاد كلامهم معانيه ومدلولاته. اشتغلوا على إحداث التغييرات الكارثية لصالحهم، في البُنية الكيانية لأصحاب هذا الخطاب. فلكل خطاب سياسي بُنية تلائمه، فإن لم تلائم بُنية أي خطاب، لغته السياسية؛ أصبحت هذه الأخيرة، مبعث سخرية وحجة لإحباط السياسة وتسميمها. وهذا ما فعلته إسرائيل في بنية ذوي الخطاب الإستقلالي والتحرري، عندما أوصلت بُنيته الى حال الفضيحة، بلا مؤسسات وبلا حسيب أو رقيب!
على الرغم من ذلك كله، ينبغي التأكيد على أن الأمور ترتبط بعضها ببعض. الوكالة والسلطة، الكيانية والمسار الديموقراطي والإنتخابات، الفاعلية السياسية والمكانة الأدبية للمستوى السياسي. الخطاب الوطني وأبعاده الإجتماعية، الإدارة والنزاهة وبراهينها في الواقع… وغير ذلك كثير.
لم يقدم مؤتمر المانحين في بروكسل، المال المُرتجى ولا حتى نصفه. وإن كنا نَعيب على أنفسنا إسهامنا بالقدر الكثير أو القليل في توفير أسباب خُذلانهم السلطة، وندعو الى رفع مستوى الإجتماع السياسي الفلسطيني لإصلاح أوضاعنا؛ يصح أن نعيب عليهم خُذلان الوكالة، لأن كل أسباب خذلانها تندرج في خانة التماشي مع المقاصد الإسرائيلية.