بقلم..عدلي صادق
ربما يوحي التكرار، بأن لا شغل لنا سوى نقد السلطة، لأن مسألة الحاجة الى التغيير، أشبعناها قولاً. لكن التغيير المنشود يبتعد ولا يقنرب، وعُطالة النظام السياسي تتفاقم، ولم يرَ المعنيون بالنقد، أن هناك أدنى إحساس بالمسؤولية على مستوى شريحة الممسكين بمقاليد الأمور، ممن يستمرئون سلطاتهم المحلية البائسة. وتدل كل تصرفات هؤلاء، على كونهم يتعمدون التغاضي عن مخاطر اللحظة، التي تتهدد الوضع الوطني كلهَ!
العنوان الرئيس لمسألة التغيير، هو الإنتخابات العامة. وليس التحايل على هذا المطلب، وإنكار حاجة النظام الفلسطيني الى عملية ديموقراطية، دون إبطاء، إلا إستمرار القرصنة على حق الشعب في اختيار من يحكمون ومن يمسكون بمقاليد السياسة الوطنية، لما فيه صالح القضية والشعب. إن كل الأجراس تُقرع، لكي يفهم الجميع أننا في مرحلة من أصعب مراحل التاريخ الفلسطيني وأكثرها خطورة.
إن المقاربات الناشئة، المتعلقة بمن يخلفون عباس؛ لا تعدو كونها خزعبلات تنطلق من وضعية السيطرة الأمنية على النظام الرسمي الفلسطيني، من داخل المنطقة العسكرية الإسرائيلية الوسطى. فالنظام الفلسطيني، في صيغته الراهنة، لا يمكنه تأمين عملية انتقال طبيعي وسلس للسلطات. أما بمفاعيل السيطرة بالإكراه، فإن حفنة المتنفذين، هي حارسة الإنقسام، وهي التي تُغذي أوهام أفراد، بأن لهم الحق في الحفاظ على سلطاتهم. وهنا يتكثف كل ما هو نقيض لنظرية الدولة وقضية التحرر وحقوق المجتمع، وشروط قيام الكيانات، وأولها شرط الرضا الشعبي!
الأمور كما تبدو لكل من يُعاين المشهد الفلسطيني، تدل على أن الممسكين بمقاليد السلطة لا يعترفون للشعب بحقوقه السياسية، وفي الوقت نفسه يطلقون خطابهم الداعي الى إعتراف العالم بهذه الحقوق وأولها جلاء الإحتلال عن أراضي الدولة الفلسطينية التي تحددت جغرافيتها، وفق مرجعيات العملية السلمية.
معنى ذلك أن طرفاً لا يعترف لشعبه بالحقوق السياسية، يدعو الإحتلال والعالم لأن يعترف لهذا الشعب بالإستقلال. وهذا هو الهراء بعينه. وإسرائيل، من جانبها، ترى أن الوضع الفلسطيني في أحسن حالاته بالنسبة لها، وتتحضر لمرحلة ما بعد عباس، لكي يكون لها القَدَح المُعلّى، في صياغة النظام الفلسطيني، مع تطبيقات على الجغرافيا، تُبقي الإنقسام والخصومة، مستعينة بالحجج السخيفة، وبعناد وغرور الممسكين بمقاليد الأمور على جغرافيا هذه الدولة المُفترضة فلسطينياً، والتي ترفضها جهاراً، الأوساط الإسرائيلية الحاكمة. فهذه الأخيرة، إن عزّت عليها ذارئع تبرير عنصريتها وتمسكها بالإحتلال؛ تتحدث عن فلسطينيين منقسمين وبلا عنوان، وتشتغل في الوقت نفسه، ومن وراء الستار، على صياغة هذا العنوان بنفسها، وفرضه بقوة الإحتلال والأمر الواقع!
عباس يدخل في السنة الجديدة، عامه السابع والثمانين، والترتيبات تجري لتحضير من يخلفه، مستترة ومن وراء حُجب. ويُفهم من الإشارات الصادرة عن “المقاطعة” أن إسرائيل تريد أن يصبح النظام الفلسطيني، التجسيد السياسي لمنهجية التنسيق الأمني، ما يعني شطب الحيثيات التاريخية والسياسية من العنوان الرسمي الفلسطيني، وتحويله الى شيء أخر مختلف.
من يتابع كل ما يرشح عن الجلسات الخاصة في رام الله، والهمسات المحملة بالتوقعات؛ يدرك أن ما يسمى المؤتمر العام الثامن لحركة فتح، المزمع عقده؛ يهدف الى تصعيد عناصر جديدة وتغطيس أخرى قديمة، على النحو الذي يلائم الشريحة المسيطرة التي لا تُخفي وجهتها. ومن دواعي الأسف، أن تكون حركة فتح واسمها وتاريخها، في موضع الإستخدام والإستمرار في الإستخدام، حتى الإنتهاء من الحاجة اليها. ولسوء حظ المتنفذين راهناً، أن الطرف الإسرائيلي الذي يحكم؛ ينطوي على ثقافة موغلة في الإستعلاء الظلامي العنصري، ولا تعترف لمن يطيعون إسرائيل، ممن يتوهمون أنهم أقطاب الرحى؛ بشيء يضاهي اعتراف المقاول الإسرائيلي بقدر من القيمة، للعمال الفلسطينيين في ورش العمل ومواقعه!
كيف يمكن وقف هذا الإنهيار، ما لم يضغط المجتمع والنُخب فيه، لكي نذهب الى عملية ديموقراطية، تتوافر لها أدبيات سياسية منزوعة التزيد الخطابي والطنين، وفي الوقت نفسه منزوعة الرقاعة والتسليم. لدينا مرجعيات لعملية التسوية، ليس لنا بعدها، في هذه المرحلة التاريخية، زيادة لمستزيد. وقد يكون إحراز التسوية وفق هذه المرجعيات، صعباً في هذه المرحلة، لكن وحدة الكيان الفلسطيني على اسس دستورية وقانونية، ستكون متاحة، ومن شأنها تعزيز الورقة السياسية. فقد أصبحت إسرائيل ترى في محاولة تكريس مرجعية التسوية والذود عنها، ممارسة عدائية إن لم تكن إرهابية. وللأسف أصبح سقفنا هو التمسك بهذه المرجعيات، على الأقل لأنها لا تعترف لإسرائيل بضم أراض من احتلال 1967. وبالطبع ليس هذا خيارنا قياساً على المُدركات التاريخية للقضية الفلسطينية، لكن هذا أيضاً، هو الواقع الذي أنتجته عناصر عدة، من بينها الوضع العربي، والضغوط الدولية، وهذه الحال التي وصل اليها الوضع الفلسطيني.
لا فائدة من مناشدة النخب السياسية، الفصائلية، لكي تضغط في انتجاه الإنتخابات العامة. فهي أعجز من أن تؤدي النذر اليسير من دورها، لذا فإننا نناشد أنفسنا كمجتمع ونُخب وطنية وجماهير.
نحن نقف الآن على حافة جُرف، ومن يحاولون تجميل الحال والتغاضي عن الكارثة، ليسوا إلا أشباه فئران الخمارة!