كتب عدلي صادق:
بكل قوة، قَرَع فيليب لارازيني، المنسق العام لوكالة “أونروا” جرس الإنذار لممثلي الدول المانحة، في اجتماعهم الذي التأم أمس الثلاثاء في بروكسل. قال الرجل إن الوكالة تتعرض لاستهدافين متزامنين، سياسي ومالي. الأول في شكل هجمات لتشويه عمل الوكالة واتهامها بما ليس فيها، والثاني يتمثل في عدم دفع المانحين إسهاماتهم المقررة لدعم موازنتها، الأمر الذي أوصل “أونروا” إلى حافة الإنهيار!
في الحقيقة، كان هذا الإجتماع قد تلقى إنذارين، واحدٌ عن انهيار السلطة الفلسطينية، والثاني يتعلق بوكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين. الأول أطلقته إسرائيل وطلبت الإنقاذ لكي لا تنهار السلطة، والثاني تسببت فيه إسرائيل وثابرت على إيصال الوكالة الى حافة الإنهيار، توطئة لإحالتها الى قبرها. والإنذاران يرتبطان بالمقاصد السياسية نفسها. وإن كانت دولة الإحتلال، تتحمس للإنقاذ والإستجابة للإنذار الأول، فإنها تحث على عدم الإنقاذ وتحرض على عدم الإستجابة للإنذار الثاني.
كان العجز في موازنة وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، قد بلغ حتى الشهر الجاري 100 مليون دولار، وأصبحت الوكالة على الحافة، لذا قال لازاريني للصحفيين قبل اجتماع بروكسل:”إنني اليوم أرفع درجة الإنذار الى أقصاها وأقرع الجرس. فإن لم يكن هناك حل حقيقي الآن، ستنهار أونروا، فهي لا تستطيع سداد كلفة عملها ولا دفع الرواتب”.
معلوم من خلال تصريحات سابقة، أن موازنة “أونروا” ظلت راكدة منذ سنة 2013 بينما عدد اللاجئين يزداد بالتكاثر الطبيعي، والإحتياجات تزداد أيضاً، لكن الصناديق السيادية للدول المانحة، تعمدت عدم إدخال البيانات المستجدة في سجلاتها. ويقول المنسق العام للوكالة إن الإنهيار الذي يتهددها جاء بسبب الهجمات السياسية الشرسة والمستمرة. والرجل لم يُسمِ كل الأطراف التي تهجم، واكتفى بذكر إسرائيل، وإدارة ترامب السابقة وأقطاب من الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، والمنظمات اليمينية غير الحكومية فيها.
لننظر الآن في مسألتين تتسمان بالغرابة وبالقدر البليغ من السفاهة. الأول أن جلعاد أراد، سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، يحث الدول المانحة على قطع التمويل عن “أونروا” ويقول إن هذه الوكالة، طوال تاريخها، كانت جزءاً من المشكلة وليس جزءاً من الحل. ويتبدى إعوجاج المنطق، بأعتى لغة إمبريالية، عندما يرى الصهيوني أن طرد 800 ألف فلسطيني من بيوتهم وحقولهم ومدنهم وقراهم وسلب ممتلكاتهم، في العام 1948 كان هو الحل الصائب، بينما أن تتولى الأمم المتحدة إسكان المطرودين وإغاثتهم وتشغيلهم فهذا هو المشكلة. في الوقت نفسه، يدعو غانتس وزير الجيش، الى حشد “المجتمع” الدولي “للإنضمام إلى إسرائيل، لتقوية السلطة الفلسطينية، خوفاً من انهيارها، ثم يعلن “زوهِر بلوت” رئيس الشعبة الأمنية والسياسية في وزارته؛ أنه “عمل بنفسه لدى الإدارة الأمريكية للضغط على الدول المانحة قبل اجتماعها، لاستئناف ضخ الأموال للسلطة الفلسطينية”!
هنا يتحدث الساسة في دولة الإحتلال، عن مشكلة مزمنة تمثلها “أونروا” ويضغطون لكي يتوقف المانحون عن دعمها، وفي موازاى ذلك يتحدثون عن سلطة فلسطينية يعتبرونها حلاً، ويحثون على دعمها. ولكي تحقق هذه السياسة مبتغاها، اتخذت إسرائيل كل الألاعيب لكي تشوه سمعة وكالة “أونروا”. ففي يوم أمس، الثلاثاء، كانت هناك منصة للتحريض، خارج مقر اجتماع المانحين في بروكسل، يديرها الصهيوني الكندي المتطرف هيليل نيئير، الذي يتزعم مجموعة منظمات يمينية صهيونية في العالم، متخصصة في تتبع إجتماعات وقرارات الأمم المتحدة. ومن خلال هذه المنصة، جرى توزيع كتيبات ومواد إعلامية تتهم وكالة “أونروا” باحتضان إرهاب مزعوم، من خلال المناهج الدراسية وتوجهات المعلمين. وقد صرح نيير قائلاً: إذا عرفنا من هي الدول التي تدعم الوكالة؛ نعرف من هم الذين يُمجّدون هتلر”!
معنى ذلك أن دولة الإحتلال وأذنابها وأحزابها المتطرفة، يريدون جعل “أونروا” حمساوية وحافرة أنفاق تحت المدارس، ومانحة رواتب لمغردين عبر وسائل التواصل، معادين لإسرائيل. وهذه ممارسة من النوع المفرط في استهبال عقول الحكومات والدول والشعوب، ومن نمط احتقار الحقيقة وتعلية الغرور والبذاءة. ولا نستبعد أن يُتهم لارازيني الطلياني ـ السويسري، والمنسق السابق لبرامج التنمية التي ترعاها الأمم المتحدة في العالم، بأنه إرهابي أو معادٍ للسامية.
نحن بصدد حملة شعواء على “أونروا” لشطب قضية اللاجئين، وقد عبر لارازيني عن مقاصد هذه الحملة، بعبارات قوية وصريحة. وللأسفكان هناك نوع من التماهي مع الحملة، من خلال تخفيض الدعم عن “أونروا”. فالألمان خصموا من إسهامهم مئة مليون دولار، والبريطانيون 25 مليوناً، والأوروبون مجتمعون 30 مليوناً، والعرب خصموا من القليل المعتاد، فهبط إسهامهم جميعاً الى 17 مليون سنوياً، خمسة منهم دفعتها السعودية، ليظل العجز في الموازنة كبيراً. فمن المئة مليون المطلوبة لسد العجز، حصلت الوكالة على تعهدات بـ 38 مليوناً بعد مناشدات لارازيني.
المسألة الثانية التي استرعت النظر والألم، هي أن يصبح الحث على الدفع للسلطة الفلسطينية واجباً على دولة الإحتلال ومتطرفيها وأذنابها. وهذا أمر ينبغي التوقف عنده. ومن ذا الذي يتوقف؟ ومن هم الذين يتوجب عليهم التنادي الى وقفة فلسطينية موضوعية، لمعاينة ما وصلت اليه حال السلطة، إن لم يكونوا النُخب الإجتماعية الوطنية في الداخل والخارج؟