كتب: عدلي صادق
يبدأ الإحساس بالفقد كبيراُ وعميقاً، ثم يتولى الزمن، الخصم منه شيئاً فشيئاً، حتى يتلاشى أو يصبح محض ذكرى. وإن أدركه النفاد، يُطوى الإحساس بالفقد، وينشأ النقد ويطفو علا السطح، لا سيما وأن جلَّ من لا يُخطيء.
لكن الإحساس بفقد الزعيم ياسر عرفات، سار عكساً. فكلما مرّت السنون، ازداد الإحساس به. ولا تحتاج هذه الظاهرة، الى مختص في علم السلوك الجمعي للبشر، لكي يعلل هذا المسار المعكوس لمشاعر الناس وهي تتنامى، حيال رجل غاب وآلمهم غيابه. فمن طبائع السليقة البشرية، الميل الى النسيان والمقارنة. فلو جاء بعد عرفات من يَحتذي مناقبه مع بعض أخطائه؛ دون أن يزيد على الإيجابي الكثير، أو يتحاشى السلبي القليل؛ لكان إحياء الذكرى أقل شمولاً وعاطفة، وأكثر موضوعية مما يترائى ويُسمع، في كل سنة عند إحياء الذكرى. فموت الزعيم المُحبب، لا يعني موت شعب، ولا فقدان بوصلة، ولا خُسران ما تراكم خلال تجربة الراحل في حياته، من إيجابيات أو رَسَخ من أعراف وتقاليد. لكن الذي حدث معنا، هو العكس تماماً، وهذا ما يجعل الوارثين يخطئون في حق أنفسهم أولاً، ثم يخطئون في حق الناس، عندما يطيحون بما تأسس من الأعراف والتقاليد ومألوف الواجبات. وإن أردنا الدقة، إن هذا هو الذي يجعل الوارث، يلطخ تجربته بنفسه، ويدفع الناس الى الحال التي هم عليها الآن!
هل سأل وارث الرئاسة نفسه، لماذا يكبر إحياء الذكرى، سنة بعد أخرى، ولا يتضاءل ليصبح في حجم إحياء لذكرى أي زعيم راحل، كان له كبرياؤه ومآثره وشجاته وصلابته الوطنية، ورجحت كفة أعماله النبيلة على كفة ما سجله عليه البعض من مآخذ؟
فالذكرى تكبر، وتخالف طبائع الشعوب التي يتعين عليها أن تتقدم إلى الأمام، وأن تكتفي بما يسجله المؤرخ للأفذاذ الراحلين. وهذا الذي يجعلنا مضطرين للتساؤل: بماذا تتغذى الذكرى، وتكبر، إن لم تكن تتغذى بالخطايا التي تفعل فعلها؟
لن يكون الجواب، أن الإعلام الإجتماعي عبر شبكة الإنترنت يتفشى، فتتزاحم الصور والملصقات التي تعرض من جديد، مناقب الزعيم الباسل ياسر عرفات، الذي أحب شعبه وبادله الشعب الحب مع التأييد.
إن محمولات الإعلام الإجتماعي، تعكس مشاعر الناس وتوجهات الرأي العام. ناهيك عن كون الكثير من التعبيرات، تحسم رأياً يقول إن فقد ياسر عرفات، كان بمثابة صفير الريح التي اقتلعت كل إيجابي وحاني ومؤنس في حياة الفلسطينيين!
عندما يكون مسار العاطفة، في هذا الإتجاه، يتعين على الوارث أن يتحسس رأسه، وأن يعلم بأن الرأي العام الوطني، لم يلمس منه تعويضاً عن ملمح واحد من تجربة الراحل، الذي كان يستوعب الجميع ويتحملهم ويسهر على وئامهم ويواسي المألومين. وإن وقع خلاف بين متباغضين، فإنه يجمعهم ويطيل الحديث معهم حتى يرهقهم بالإطالة والتوبيخ والتذكير بالمخاطر الموضوعية، فلا يجدون أسهل من التراضي، ومداواة وجع الرأس والعودة عن الضلال!
كانت تلك إحدى خِصال الرجل في سياقه العام. صحيح إنه لم يكن بلا أخطاء، لكن الصحيح أيضاً أن من يعمل يخطيء، ثم إن الذين لم تفارق أذهانهم هَنّاته وبعضها كان من نوع الأخطاء، ظلوا أحرص من الموالين، على احترام زعامته، مع الإشارة الضمنية الى أن هناك ملاحظات على الهامش. وكان هناك قولٌ بليغ للسفير المثقف عفيف صافية:”نحن عرفاتيون بالمعنى الديغولي”. ومعنى ذلك أن الزعيم في حركة التحرر الوطني، ينبغي أن يمنح الولاء والتأييد، على طريقة الفرنسيين أثناء الحرب العالمية الثانية، عندما التفوا جميعاً حول الجنرال شارل ديغول، على الرغم من اختلاف البعض معه في التفصيلات!
إحياء الذكرى سيظل يكبر، والتقييم الموضوعي الشامل، لتجربة ياسر عرفات أصبح مادة تاريخية، وسيظل مؤجلاً حتى يقول الشعب كلمته، ويفوض من يحكمونه، بأفضل مما تكون عليه شروط قيام الكيانات، لأن كيانات الذين لم يحرزوا الإستقلال الوطني، تتطلب شروطاً ضامنة لفعاليتها، أكثر مما تتطلبه الدول المستقلة!