بقلم: عدلي صادق
كأنما الجواب عن السؤال: “كيف أُزهقت روح ياسر عرفات، التي تلت الوعيد تلو الوعيد؟” ما يزال صعباً في السياسة، لما تنطوي عليه الإجابة، من مسؤوليات، تتعين على الوارثين، وقد عجزوا عن جر العدو الى ساح التقاضي، للبت في جنايات أصغر حجماً، وصولاً الى الحُكم والقول الفصل، ضد القتلة!
وبينما الإجابة وراء الستارة، وانفراجها معطّل؛ تُرك للناس حق التداول المجازي للتعريف بالقاتل الأساس. لكن الناس بطبائعها، لا تتقبل رواية مقطوعة السياق، وتخلو من حركة “الأكشن” لا سيما عندما تكون من جنس الدراما وأعمال الجاسوسية. واللافت في ما آلت اليه رواية إغتيال ياسر عرفات واستعصاء الستارة على الإنفراج؛ أن المستوى السياسي الفلسطيني، وهو ضعيف في الأصل لكنه يستمري ضحالته، لم يأنس في نفسه حتى الآن وبعد سبعة عشر عاماً، القدرة والجرأة، على سحب الحبال، لكي تنكشف الخشبة عن المشهد الأول، الذي يعلن فيه شارون بلغة واضحة، عن وجوب غياب ياسر عرفات، فإن لم يغب، يُصار الى تغييبه. فالمسؤولون في هذا الإطار، يحاذرون حتى توجيه الإتهام الصريح لدولة الإحتلال ومخابراتها، بل يحاذرون في توصيف الموت نفسه، فهو “رحيل” ومحض “إستشهاد” ونائب فاعل مرفوع بالضمة. وفي هذا السياق، جرى كل ما هو عجيب. فقد ظل التركيز على الأداة المنفذة، واستُخدمت الجناية للتهاجي، وفيه تلميحات رعناء، من شاكلة تصريح لم يتكرر، أدلى به رئيس السلطة قبل مؤتمره الإقصائي السابع لحركة فتح، عندما زعم أنه يعرف القاتل، وكان يُلمّح الى خصم له. لكن الرجل أمسك عن تكرار ما قاله، عندما تذكر أن الخصم الذي يعنيه، كان صاحبه في فترة استهداف الزعيم، وكان هناك أيضاً من ينبه صاحب التصريح والتلميح، بأن الإنتقاص من جوهر الرواية، وتحويلها الى سجال سخيف، بين خصمين، لا يجوز بمعايير الحقيقة وأبعادها. فتلك كانت ممارسة كلامية من شأنها التشويش على حكاية حرب ضارية، إندلعت ضارية بين زعيم كبير واحتلال في حجم وبشاعة “اللوياثان”، الوحش البحري الأسطوري في التوراة، أو في سِفر “أشعيا” في الإنجيل.
بعد التلكؤ الطويل، ولإخلاء المسؤولية، شُكلت لجنة تحقيق، برئاسة توفيق الطيراوي. وبذلت اللجنة جهداً مُقدراً، لكنها كانت تعرف منذ البداية، أنها أمام مرحلتين طويلتين، واحدة تتقصى كل المعطيات التي توافرت عن الفترة قبل دس السُم أو رمي الإشعاع، وتعاينها، لكي تصل الى الأداة المنفذة. أما المرحلة الثانية المُغلقة، فمن المفترض أن تتقصى الطريق الى العقل المدبر، أي الطرف الذي أعلن عن عزمه على تصفية ياسر عرفات. وهذا أمر لا تقوى عليه السلطة، بل إن مجرد الإفصاح عن الرغبة في التقصي، يمكن أن يعرض الطرف الذي أفصح، للإتهام بالإرهاب، وبـ “معاداة السامية” وفق مألوف الدعاية الصهيونية. ومن ذا الذي يمتلك الشجاعة، من الممسكين بمقاليد الأمور، على فتح ملف من هذا النوع، ويتحمل تبعاته؟
توصلت التحقيقات الى فرضية راجحة، زادتها رجوحاً واقعة العثور على الرجل أو الأداة المفترضة، مقتولاً في شقته. والقتل هنا، كان بمقص الطرف الذي يريد قطع خيوط التحقيق. ولا نتهم أحداً سوى الإحتلال بفعل المقص، علماً بأن فرضية أن يكون هناك آخرون، تظل قائمة، بتعليل يمكن أخذه بعين الإعتبار، وهو وجود معنيين بقطع الخيوط؛ لإعفاء أنفسهم من مرارة الإستمرار في التتبع!
ولكن لماذا أقدم العدو، أو المعنيون الآخرون ـ إفتراضاً ـ على جريمة قتل الأداة، التي إما ستعترف أو ستحصل على البراءة، علماً بأن إسرائيل بلغت من الغطرسة والتبجح، الى درجة قتل الطفل الفلسطيني ثم تأثيمه، أو قصف منزل في غزة، يكتظ بالأطفال، وتنقل رؤوسهم المقطوعة بالجملة الى المشافي والمقابر، أمام الكاميرات وعلى رؤوس الأشهاد؟!
كان الطرف الذي قتل الأداة، يريد طي التحقيق، وإبقاء الرواية بتفصيلاتها وإحداثياتها على جسد الزعيم؛ وراء الستار أو في ذمة التاريخ، وتهدئة اللعب على مسرح الحدث، وتحاشي الإثارة. فعرفات زعيم أحبه شعبه!
السيدة سهى عرفات، زوجة الزعيم، بذلت جهداً يستحق الثناء، على مستوى الكشف عن نوع السم، لمعرفة ما إذا كان سُماً في عقار، أو إشعاعاً ساماً. أما التساؤل عن التحقيق، فهو من نوع الأسئلة الحائرة، التي تفترض عدم وجود تحقيق، وهذا افتراض خاطيء. فالتحقيق قد جرى، وقطع شوطاً الى نهاية مرحلته الأولى، ثم انقطعت الخيوط، فاكتفى المحققون أنفسهم بالنتيجة المجازية نفسها، التي يتداولها الناس، وهي الأدق والأصوب والأجرأ والأعلى شأناً من لغة السياسة.
رئيس لجنة التحقيق، قال في ساعة لمّاعة متسائلاً: هناك من وفر التغطية السياسية لتصفية الزعيم. وفي الواقع هذا كلام يندرج في خانة التحليل، ولا يُصاغ منه قرار اتهام، لأن القائمين على أمور السلطة، في سياقات التحليل، يوفرون تغطيات لا حصر لها، عن دراية أو بغير قصد، للكثير من الرزايا. ومع ذلك نقول بكل موضوعية، إن محمود عباس لا شأن له بالأمر. فـ “اللوياثان”رمز الشر في العالم، كان يحاصر ياسر عرفات، وقد أفصح عن مقاصد قتله، وكانت المعركة، فوق مستوى التُرهات والكلام الأرعن!
في المحصلة، فقدنا ياسر عرفات، وحلَّ بنا ما كان يخطط له المحتلون، وتفاقم المأزق، وبقي لغز الإرتقاء مٌبهماً على مستوى التفاصيل، لكنه يتجاوز اليقين، بأن أعداءه المحتلين، هم الذين ارتكبوا الجريمة، ولا معنى بعدئذٍ، للبحث في هوية الأداة، لأن كل أدوات الإحتلال رخيصة وهي من جنوده وملحقاته.