ذات صلة

كي الوعي مقدمات ونتائج!

كتب: توفيق أبو خوصة:

في زمن مضى كانت الأمهات تخيف الأطفال حتى ينامون بالغولة و أبو رجل مسلوخة و اليهودي، وذلك قبل نكسة حزيران 1967، بعد الاحتلال الغاشم رأينا اليهودي و لم يعد جزء من أسطورة تخويف الأطفال، و كبرت الطفولة و الرجولة فينا وسقطت الفزاعة وصار الفدائي هو النموذج والمثل، وتغيرت المفاهيم والثقافة وبرز وعي جديد يطغى على ما سواه بأن هذا اليهودي المحتل ليس أكثر من بشر لا يتميز عنا بشيء ونستطيع أن نواجهه في كل ميدان، وقد عزز هذا الشعور زيادة الإختلاط مع المجتمع الالإسرائيلي في العمل و مختلف المعاملات اليومية، إلى أن وصلنا مرحلة الإنتفاضة المجيدة 1987، التي شكلت نقطة تحول في مفاهيم الصراع و العقل الجمعي الفلسطيني، حيث أصبح الطفل الفلسطيني هو الرمز النضالي “جنرالات الحجارة” في مواجهة الجندي الإسرائيلي والمشروع الصهيوني، ذلك الجندي الذي عشش في عقل المؤسسة الأمنية و العسكرية بأنه لا يقهر وقف عاجزا أمام حجارة الأطفال التي كانت ترسم حدود الحلم الفلسطيني بالحرية و الاستقلال، وتلاحق المحتل في المدن والقرى والمخيمات وفي كل حي وشارع وزقاق، وكم سجل أطفال فلسطين من بطولات وإبداعات نضالية في ساحات الاشتباك، مقاتلون وشهداء وجرحى وأسرى، لتشكل الإنتفاضة الأولى القاعدة و الأساس في بناء وعي وطني جديد في مرحلة تاريخية فارقة يمتاز بالشمولية والجدية والإبداع الكفاحي مما ساهم في تعميم الرؤية الجماهيرية وقبلها الارتقاء بالمفاهيم التنظيمية لأساليب و أدوات الصرع مع العدو الإسرائيلي، ولم تنجح كل المستجدات والتطورات التي حدثت في المجتمع الفلسطيني في القفز عن الآثار التي ترسخت عميقاً في الوجدان الوطني بعد إقامة السلطة الوطنية، بل أخذت مسارات أكثر تطوراً وفعالية بحكم البيئة الإيجابية والمساحة المتاحة من حرية العمل والتفكير والتدبير للمراكمة الكفاحية في مواجهة المحتل للإسراع في إنجاز الأهداف الوطنية الثابتة والحقوق المشرروعة غير القابلة للتصرف.

وفي ضوء إتساع دائرة العدوان الصهيوني التي أخذت أشكالا أكثر قوة و دموية وتدميراً، بالقصف والاغتيالات والاجتياحات والحصار والإغلاقات وهدم البيوت ومصادرة الأراضي وكل العقوبات الجماعية والانتقامية وعمليات التهويد والاستيطان  والتطهير العرقي، جاءت ردات الفعل والمبادرات النضالية لمواجهة هذا التغول الصهيوني، وعززت الوعي الوطني بقوة تصاعدية ضربت أسس ومفاهيم نظريات الأمن الصهيوني في مقتل المرة تلو المرة، وتحول الأمر إلى سباق عقول في معادلة الصراع القائم، وبات الفلسطيني المقاوم عموماً يوظف القدرات والإمكانيات البسيطة التي يمتلكها ليس فقط في إيقاع أكبر قدر من الإيذاء للإحتلال الإسرائيلي و إفرازاته الاستيطانية، بل ذهب بعيدا في التأثير السلبي على الوعي الجمعي والفردي في المجتمع الصهيوني وتقويض جملة من المعتقدات الزائفة والموهومة في نظرته للآخر الفلسطيني، ويحدث فيها تغييرات جوهرية وحاسمة، إذ أن الإسرائيلي في الأجيال السابقة كما يقول د. زئيف أوديد مناحم “أخصائي علم اجتماع تربوي اسرائيلي”: “جيلنا نحن تعود على صورة العربي الجبان الغدار الماكر صاحب الكوفيه والعقال السمين الذي يركب الحمار دوما ويأكل البيض المسلوق والسردين ويشرب الشاي صورة العربي كانت في عيني أبناء جيلي صورة ارهابي جبان او جندي مستسلم في حرب (الاستقلال 48)  وفي حرب (الأيام الستة 67) هذا الجندي الذي كان ينهزم في كل معركه دون أدنى جهد يذكر. حينها تكرست صورة الجندي اليهودي الذي لا يقهر، حتى منظمة التحرير استطعنا طردها واظهارها بمظهر المهزوم حين طردناها من لبنان”.

لكن التحول الفيصل في هذه الصورة النمطية برز بوضوح في إجابة طفل لعائلة مستوطنة جاءت من الأرجنتين يبلغ عمره 10 سنوات يعيش في مستوطنة إسرائيلية محاذية لقطاع غزة، عندما تم توجيه سؤال له مما تخاف بشكل عام رد بصورة تلقائية: أن يخرج عربي من النفق ويخطفني أثناء نومي!

نعم هذه صورة الإنسان الفلسطيني اليوم في الوعي و اللا وعي للمستوطن الإسرائيلي من الجيل الجديد الذي سيصبح جنديا بعد 8 سنوات، يملأه الرعب والخوف يكبر بهما وعليهما، جيل تربى على صوت صفارات الإنذار و الهروب إلى الملاجىء حفاة عراة يصاحبهم الصراخ البكاء والعويل اتقاء لموت يلاحقهم في كل حين.

يضيف الأخصائي الإسرائيلي: أدركت مدى فداحة الوضع أثناء الحرب الأخيرة وأنا ارى الركض نحو الملاجئ في بنايتي في أشدود وبكاء الأمهات والأطفال حين سألت طفلة مذعوره أمها الباكية هل المخربون قادمون لذبحنا؟

هذه الصورة النمطية التي باتت تسكن في مخيلة و وعي المستوطن الإسرائيلي الذي وصل في مرحلة سابقة إلى الخوف من ركوب الحافلات أو الدخول للمجمعات التجارية الكبيرة والمطاعم حد الهوس بعد موجة العمليات الاستشهادية، ومؤخراً كما قال أحد القادة الصهاينة بعد سلسلة العمليات الفدائية في بئر السبع والخضيرة وبني براك وتل أبيب وإلعاد التي عبرت عن جرأة فائقة و قدرة تؤكد ألا مكان آمن يمكن ألا تطاله يد المقاومة الفلسطينية، وعن عمليات الطعن و الدهس و إختراق حواجز الأمن و الدخول إلى قلب المستوطنات فحدث ولا حرج، رغم كل الإجراءات الأمنية و التعزيزات العسكرية و الشروع في تشكيل عسكرى يأخذ طابع الميليشيا “الحرس الوطني” للانتشار في المدن والتجمعات السكانية الكبيرة وتخصيص كتائب من حرس الحدود والجيش لحراسة الجدار العنصري.

الكيان الإسرائيلي رغم ما يمتلكه من قوة وأعتى آلة عسكرية في المنطقة يعيش بذات النفسية و الشعور الذي عبر عنه الطفل الإسرائيلي المستوطن مع عائلته اليهودية التي تم إستجلابها من الأرجنتين لتقيم في فلسطين، وتسيطر عقلية الطفلة  الغارقة في الخوف و الرعب في أسدود على وعي المستوطنين على إختلاف مشاربهم بما فيهم الأكثر تطرفا من الناحيتين العقائدية و السياسية، حتى وصل الحد برئيس الوزراء الأسبق “إيهود باراك” إلى التشكيك في إمكانية أن تكمل دولة الكيان الإسرائيلي عامها الثمانين، زغاريد رعد وضياء في فضاء فلسطين فعلت فعلها ولها ما بعدها، أما حمم الكلام و الغارات الصوتية مفعولها زائل، لا يفل الحديد إلا الحديد و يحقق مانريد وما لا تريد الفاشية الصهيونية، أرض المعركة الحقيقية و الصراع الوجودي هناك في القدس و الداخل الفلسطيني و الضفة الثائرة ،،، غزة جزء من المعادلة و لكن الجزء لا يسد عن الكل، ما يمتلكه الفلسطيني من ثبات في صراع الإرادات والقدرة على كي الوعي لدى الآخر أكبر بكثير من كل المحاولات البائسة لإخراجه من جلده وشطبه من التاريخ والجغرافيا وعمقه الحضاري، فلسطين تستحق الأفضل… لن تسقط الراية.