آخر الاخبار

وسوى الروم خلف ظهرك رومُ

كتيب عدلي صادق: تُنسب موجة الغلاء أو القفزة الأخيرة في أسعار السلع الأساسية؛ الى حدث واحد، ومعه ظاهرة واحدة: الحرب في أوكرانيا وجشع نمط من التجار، استبقوا الغلاء الجديد في أسعار السلع التي سوف يستوردونها، بعد نفاد الكميات في مخازنهم، فاحتبسوا الموجود، لكي يتسنى لهم البيع بالأسعار الجديدة، ويصبح الغلاء نفسه مناسبة سعيدة لمضاعفة أرباحهم.

الحرب في أوكرانيا قرعت جرسين: النقص في إمدادات الحبوب ما يؤدي الى ارتفاع كلفة الخبز، والتهاب أسعار الطاقة، الذي يُلهب بدوره أسعار كل شيء.

جشع التجار قديم قِدم التجارة نفسها، لكن المسألة على مستوى هذه الظاهرة، تظل عابرة ومحدودة زمنياً، وتنتهي عندما تفرض الأسعار الجديدة نفسها. على الرغم من ذلك، تتوجب معاقبة التاجر الجشع، لا سيما ذلك الذي يحتبس المواد في انتظار بدء العمل بالأسعار الجديدة. فقد بدت لافتة ظاهرة القبض على هذا النمط من المستغلين. ففي مصر مثلاً، كان عدد المقبوض عليهم يوم الجمعة الفائت، في مدينة بورسعيد وحدها 75 تاجراً!

لكن الأمر، بحكم طبائع الأمور في بلادنا فلسطين، يصبح أفدح، لكون عوامل التضييق أكثر شراسة والمواطن الفلسطيني نفسه مستهدفٌ في حياته ومعيشته، وينطبق عليه وصف الشاعر المتنبي في مقولته: وسوى الروم خلف ظهرك رومُ/ فعلى أي جانبيك تميلُ؟

هذا الأمر بالنسبة لنا، لا يتعلق بجحفل من رومٍ واحدة على كل جانب، مثلما قال المتنبي. فلدينا، في كل جانب، جحافل روم، من بينها عددُ من الأيدي الضريبية والجبائية.

وفي قفزات ارتفاع الأسعار، هناك الكثير مما يصعب تعليله حين يتغاضى المرء عن ثلاثة عوامل: الجشع السلطوي الضريبي الذي يتحول الى جباية قسرية، والجشع الجبائي الممزوج بالفساد واستغلال الضائقة، على خط مواصلات السلعة لكي تصل، ولا مبالاة الراعي السياسي والراعي السلطوي أينما كان، وجهله البات أصلاً، لطبيعة وواجبات وظيفته العامة، وخلو ذهنه تماماً من فكرة تدبير سياقات أسهل وأقل كلفة للاستيراد، وأقل ثمناً للسلع، ووجوب التصدي للظاهرة الجبائية أينما كانت، ورفع مستوى هذه القضايا التفصيلية، التي تمس حياة الناس، وتؤثر فيها سلباً أو إيجاباً، الى درجة عُليا من الأهمية.

فقبل هذا الغلاء الفجائي، كان الدواء ـ وهو سلعة مهمة ـ يُباع في بلادنا بأثمان لا مثيل لها في بلدان العالم الثالث ومعظم البلدان الصناعية ذات الأنظمة الضريبية المُحْكَمة. فبعض العقاقير تزيد أسعار مثلها، خمسة أضعاف أو أكثر، في بلاد آسيوية ولاتينية تنتجها وتصدرها الى العالم الصناعي وبجودة عالية. فالدواء عندنا لا يصل الى المريض، بعد اليد الجمركية الثانية أو الثالثة وحسب، وإنما أيضاً عن طريق محتكري استيراد السلعة، وهذا هو الأدهى. ويحدث الشيء نفسه، على مستوى سلع أخرى ضرورية، إذ يضاف عنصر احتكار استيراد سلع محددة وواسعة التداول، لصالح أكناف السلطة وشركائها في الإتجار. وشتان بين التجارة والإتجار. فالأمر لا يمكن اختزاله في شجع التجار الذين يقتنصون مناسبات ارتفاع الأسعار لاحتباس السلع في المخازن. فالمسألة كلها موصولة بالثقافة الوطنية وبمسؤولياتها الأساسية، وبالتقاليد التي تُرسيها أنماط الحكم الفاسد، ومن بينها تضيع معنى التضامن الاجتماعي، والإضرار بوَحدة الوجدان الوطني والانكفاء الى الذات الضيقة مناطقية او عائلية أو شللية،، وهذه الذمائم هي نفسها التي أطاحت الجمهورية اللبنانية ولن تُقيمها، لأسباب مختلفة، بعد نحو خمسة وسبعين سنة من الاستقلال، لم يشتغل خلالها الساسة المناطقيون والمذهبيون، على إنجاز الدولة ذات المجتمع الواحد، ولم يكونوا معنيين بمصالح أساسية لشعب واحد مُفترض!

فمن ذا الذي بمقدوره أن يدلنا على مصلحة واحدة، لشريحة واحدة من الشعب الفلسطيني، أظهر اهتماماً بها واحدٌ كمحمود عباس، مانح الأوسمة والأنماط بطريقة متخلفة؟ هل سُمع نبأ عن مراجعته طرفاً من الإقليم، بخصوص انسداد أفق، أو مصاعب لا لزوم لها، يواجهها المواطن الفلسطيني دونمات ذنب أو سبب؟

على الرغم من ضرورة ردع التاجر الجشع؛ فليس جشعه هو السبب الجوهري في التأثير السلبي العميق لقفزة الأسعار، على المواطن الفلسطيني، بما يزيد كثيراً عن بلدان فيها أسواق وفرص عمل. فلكل تفصيل في حياة الناس جَذرٌ سياسي، ولكل محنة أثرها جمراً يتراكم تحت الرماد. فعندما ترتفع الأسعار في الدول المستقرة بالنظام والقانون وأسواق العمل؛ يقتصر تأثر المواطن على نسبة ضئيلة من مدخراته، بينما الأمر في البلدان المأزومة، يتأثر المواطن في لقمة الخبز وفي قرص العلاج، وفي غير ذلك من الأساسيات، وعندئذٍ يكون سوى الروم خلف ظهره رومٌ!

 

أخبار ذات صلة