كتب: عدلي صادق:
تقدمت قناة “كان” الإسرائيلية، على سواها في الإقليم، ليس على مستوى عرض تعديات المستوطنين على شعبنا في الضفة المحتلة، وإنما على صعيد تأثيم سلطات الإحتلال نفسها وإفساح المجال لمداخلات نقدية، يطرحها جنرالات سابقون في جيش الإحتلال نفسه، تحذر من ظاهرة تغول المستوطنين، وتواطؤ جيش الدولة معهم، وتشجيعهم موضوعياً على الإستمرار في جرائمهم. وتلك ممارسة إعلامية، تُذكّر بالصمت الرسمي البات في الإقليم، عن هذه الظاهرة الشبيهة بما مر في التاريخ الإمبريالي السحيق!
الجنرال نيتسان ألون، الذي شغل في السابق منصبي نائب رئيس هيئة أركان الجيش وقائد المنطقة الوسطى، يُحمّل المستوى السياسي في تل أبيب جزءا كبيرا من المسؤولية عن تعاظم ما سمّاه صراحة “إرهاب المستوطنين” ضد الفلسطينيين. قال الجنرال، الذي يعلم الله وحده كم عدد الشهداء الفلسطينيين الذين قتلوا في وقت خدمته، إن جماعات المستوطنين التي تتولى تنفيذ الهجمات ضد الفلسطينيين، تحظى بدعم مباشر من العديد من المستويات السياسية، في الحكومة والكنيست “لأن هناك من يحرصون على التقليل من حجم الاعتداءات، ولا يترددون في بعض الأحيان، في إضفاء شرعية عليها، من خلال عقد مقارنات بينها وبين العمليات التي ينفذها الفلسطينيون”!
كذلك عرضت القناة الإسرائيلية موقف الجنرال رونين ملنيس، الذي عمل في السابق ناطقا باسم الجيش ومساعداً لرئيس هيئة الأركان، الذي أكد على أن “أي موقف لم يصدر عن أي مستوى في الجيش الإسرائيلي، بدءاً من قادة الكتائب وحتى وزير الجيش، حول ظروف مقتل المسن الفلسطيني عمر أسعد (80 عاما) بعد احتجازه من قبل الجيش في محيط رام الله قبل شهر، ثم اقتياده إلى مكان مهجور، وتقييد يديه وتغطية فمه وتركه في البرد القارس، حتى وجد في الفجر وقد فارق الحياة”. ولسوء حظ القتلة، اتضح أن الضحية، يحمل أيضاً الجنسية الأمريكية!
في الحقيقة، لا انتقادات الجنرالات، ولا انتقادات قناة “كان” جاءت في سياق سياسي يخدم التسوية أو يرفض التطرف، وإنما جاءت وسيجيء مثلها، في سياق آخر، وهو الحفاظ على قدرة إسرائيل على إقناع الآخرين بوجاهة مشروعها الإستيطاني وموقفها الرافض لأية خطوة في اتجاه حل النزاع. فالإسرائيليون في معسكر اليمين نوعان، واحد يرى الوقاحة والهمجية في الإقصاء، عنصر قوة ويتمسك به على الرغم من اشمئزاز العالم كله؛ والآخر يراعي سمعة إسرائيل ويتمنى لو إن “إرهاب الدولة” يجري في الخفاء، لكي لا تتفاقم السمعة السيئة لسلوك الدولة المارقة، فيتعطل توغلها في الإقليم. وفي المجمل، ينتقد هؤلاء التجاوزات الفظة، من داخل معادلات الإحتلال نفسه، ويرون أن إسرائيل ليست في حاجة الى معتوهين همج، يقتلعون أشجار الزيتون، التي هي أثمن اشجار أصحاب الأرض، وينظمون حملات معززة بالسلاح وبالأدوات الموسيقية، لكي يهجموا على القرى والبلدات، ويعيثون فساداً، فيشعلون النار في السيارات وييستبيحون المحال والمنازل والمرافق.
ففي هذه الحال، يرى البعض الإسرائيلي أن مثل هذه الممارسات، تسهم في تسليط الضوء على قبح الظاهرة الإستيطانية نفسها، وتُفاقم قبح الدولة تالياً، إذ لا يستوي أن يتطفل غرباء على أراضي الآخرين، في ظل الإحتلال العسكري، ثم يبادر المتطفلون الى الهجوم على أصحاب الأرض والبلاد في قراهم. فعندئذٍ تُفتضح نظرية الإستيطان نفسها، ويصعب تعليلها بالأسطورة أو بالتحضر أو بالرغبة في التعايش!
صحيح إن القناة الإسرائيلية، عندما تنتقد سلوك المستوى السياسي الإسرائيلي وتواطؤ الجيش و”إرهاب” المستوطنين، تفعل ما لا يفعله “أشقاء” يستنكفون عن ممارسة النقد الذاتي، عبر إعلامهم وبأفواه شخصيات من حكوماتهم؛ لكن الصحيح أيضاً هو أن إعلام مجتمع الإحتلال، يعرف الأبعاد الكثيرة لما يفعل. ففي حرصه على محاصرة الظاهرة الهمجية المشهودة والمفتضحة، التي تنتمي الى القرون الغابرة، يُعفي إسرائيل من ثغرات وانطباعات شائنة، على النقيض مما تفعله الصناعات الإسرائيلية الدقيقة وأنظمة الدفاع المتطورة التي تتوسع أسواقها. بل إن نقد “إرهاب الدولة” من داخل الدولة، يُحسب لها افتراضاً، عند المقارنة بينه وبين صمت الآخرين، وبما عليه الحال في الإقليم!