اقرأ أيضاً

بيانات صحفية

في أواخر عباس وما بعده..

كتب: عدلي صادق:

في أواخر عباس وما بعده بحكم السن، يصح القول إن فسحة عمره تلامس عتبة النهاية، لكن الأعمار بيد الله. وما يصح قوله، أيضاً، أن الرجل فعل كل ما يريد لتصديع بيتنا الداخلي مع تصليب سلطاته، والاستمتاع برضوخ الآخرين العاملين في خدمته وبعجز غير الراضين عن مساره. لم تهتز شعره في رأسه وهو ينفذ حكم الإقصاء البات، والنهائي، لكل من لا يريدهم في المشهد. كان التمرد على الإقصاء، وإغاظته قليلاً، يمثل خطاً استثنائياً، لم تستفد منه الأطياف الراضخة، وظلت ـ بالمحصلة ـ تعين الباغي وتخشى غضبه.

في السياق نجح في إيلام من يريد من الناس، عبر رحلة طويلة، بدأها بالضحك على ذقوننا جميعاً، ثم باتخاذ يعضنا من بعض خصوماً ثم ـ بالتدريج ـ تنقيح البعض الأول أو تشذيبه بالمقص الغليظ، قبل الانتقال للثاني واختصاره في أقبح من فاحت فضائحه على مستوى البلاد! عبر هذه الرحلة الطويلة، كنا جميعاً خائبين، وكانت المبادرة ـ بصرف النظر عن رائحتها العفنة ـ في يده هو.

وكان السند الموضوعي له طوال تجربته ـ وهو الاحتلال ـ يتقاسم معه الأدوار في ثمثيلية هزلية، صدّعت رؤوسنا بنوع من الدراما الشبيهة بأعمال عادل إمام: طرفان يهجو كل منهما الآخر، بينما كل منهما لا يستغني عن صاحبه، ولا جمرك على الكلام في الاستيراد والتصدير.

إن مات الرجل عاجلاً ـ وكلنا ميتون ـ سيموت فائزاً. فمن ماتوا منا ومن ينتظرون الموت، انتقلوا وينتقلون الى عالم الأبدية حزانى وخاسرين، هو وحده الذي يموت رابحاً في مشروعه الشخصي، الذي هو مشروعه الوحيد، لأن أحداً لم يستطع وقفه عند حدة، حتى تجاوز ذلك الحد، كل مساحة في السلطة ووصل الى رقابنا. ليس ذلك وحسب، بل إنه وبكل براعة اشتغل لخدمة ما بعد الموت بما يضاهي كل عمل قبل الموت.

لم يترك وداداً يمضي قُدماً بين اثنين من الطامحين الى خلافته، ولا إحساساً بالتكامل والتآخي بين منطقتين متجاورتين، ولا اقتراباً حقيقياً بين طيفين في هذا الوطن، ولم يترك حتى قيمة تاريخية معنوية أو قناعة إيجابية، إلا وفعل كل ما يستطيع لزعزعتها وإطاحة شروط ومعايير بقائها. فالهدف هو أن ينخرط البعض في صراع مع أبعاض، ولا يفكر أحد، في أن يتعقب أثره.

كان طوال تجربته إعجازياً على مستوى المهارة الوحيدة التي يجيدها وامتلك فيها حنكة لا مثيل لها، وهي صنع الضغائن، فقد ثابر على هذه الصنعة على حساب حتى قراءة التقارير لكي يتحسس الخطر ويعرف أحوال الناس أو قراءة شيء يتعلم منه فلسفة السياسة ووقائع التاريخ. بشفاعة كل ما نجح فيه، يحق له في غُبشة عمره، أن يستمتع بشيخوخة هادئة، وإن مات عاجلاً، له أن يرقد مرتاحاً آمناً شر أهل الدنيا بما انجز لنفسه ولأولاده وأصفيائه خارج السياسة، من كل مغنم ومفسدة. فأغبى الشعوب وأتفه الأطياف هي تلك التي تلاحق قبراً! ما تبقى مسألة يمكن للمؤمنين البت فيها في ضوء ما يعتقدون.