السّجن المؤبد خمس مرّات، وأربعون عاماً انقضى منها واحداً وعشرين سنة في ظُلمات سجون الاحتلال الإسرائيلي.. إنه حكم المحتل الجائر، لأيقونة الأسرى الفلسطينيين، ذلك الفتحاوي العنيد، الأسير مروان البرغوثي، كيف لا وهو أحد أبرز من قادوا الانتفاضتين الأولى والثانية في وجه قوات الاحتلال الإسرائيلي!
وُلِد الأسير مروان البرغوثي في السادس من يونيو 1959م، في قرية كوبر شمالي مدينة رام الله، ليلتحق بصفوف حركة فتح في ربيعه الخامس عشر، ويُسجن للمرة الأولى في ربيعه الثامن عشر (عام 1976م).
تعلّم البرغوثي اللغة العبرية وأتقنها، و حصل على شهادة الثانوية العامة خلال المدة التي قضاها في سجون الاحتلال، ليترأس فور تنسمه الحرية عام 1983م، مجلس الطلبة في جامعة بيرزيت بالضفة الغربية، وليتخرج منها حاملاً شهادة الماجستير في العلاقات الدولية بعد أن درس التاريخ والعلوم السياسية فيها.
خلال تلك الفترة، برز اسم مروان البرغوثي كأحد مؤسسي منظمة الشبيبة الفتحاوية البارزين، والتي شكلت أكبر وأول منظمة جماهيرية تُقام في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ورغم مواصلة الجيش الإسرائيلي مطاردته، وملاحقته ووضعه رهن الإقامة الجبرية والحبس الإداري مرات عديدة، إلا أنه استمر في بناء ووضع لوائح ونظُم هذه المنظمة، بما في ذلك لجان الشبيبة للعمل الاجتماعي، والتي انتشرت في جميع القرى والبلدات والمخيمات والمدن، وحركة الشبيبة الطلابية في الجامعات والمعاهد والمدارس الثانوية ولجان المرأة للعمل الاجتماعي، وحركة الشبيبة العمالية وغيرها من الأطر التي أقيمت على أسس ديمقراطية.
تعرض البرغوثي للاعتقال والمطاردة طوال سنوات دراسته الجامعية، حيث اُعتقل عام 1984م، لعدة أسابيع ثم أعيد اعتقاله في أيار 1985م لأكثر من 50 يوماً أمضاها في غرف التحقيق، ثم فُرضت عليه الإقامة الجبرية في نفس العام واُعتقل إدارياً في آب 1985م، وعندها طبقت إسرائيل سياسة القبضة الحديدية في الأراضي المحتلة، وتم من جديد إقرار سياسة الاعتقال الإداري والإبعاد.
ويعتبر البرغوثي السجين الأول في المجموعة الأولى من الاعتقالات الإدارية، أطلق سراحه عام 1986، وأصبح مطارداً من قبل قوات الاحتلال إلى أن تم اعتقاله وإبعاده خارج الوطن بقرار من وزير الدفاع الإسرائيلي إسحق رابين، في إطار سياسة الإبعاد التي طالت العديد من القادة في الأراضي الفلسطينية.
لم تُثن عقوبات الاحتلال الإسرائيلي الجائرة، الأسير البرغوثي عن مقاومة المحتل، حيث عمل بعد إبعاده مباشرة إلى جانب القائد خليل الوزير، والذي كلّفه بالمسؤولية والمتابعة في تنظيم الأراضي الفلسطينية، وعمل لفترة قصيرة مع أبو جهاد حتى استشهاده، ورافقه في آخر زيارة له إلى ليبيا حيث تم اغتياله بعد عودته بأيام.
واصل البرغوثي عمله في موقعه من المنفى، كعضو في اللجنة العليا للانتفاضة بمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي تشكلت من ممثلي الفصائل خارج الأراضي الفلسطينية، وعمل في اللجنة القيادية لحركة فتح (القطاع الغربي)، وعمل مباشرة مع القيادة الموحدة للانتفاضة.
وفي عام 1989م، تم انتخابه في المؤتمر العام الخامس لحركة فتح، عضواً في المجلس الثوري للحركة من بين 50 عضواً، وقد جرى انتخابه بشكلٍ مباشر من مؤتمر الحركة الذي بلغ عدد أعضائه 1250 عضواً، وكان في ذلك الوقت العضو الأصغر سناً الذي ينتخب في هذا الموقع القيادي في حركة فتح.
وفي أبريل 1994م، عاد البرغوثي إلى أرض الوطن ضمن أول مجموعة من المبعدين، بموجب اتفاقية أوسلو، ليتم انتخابه نائباً للشهيد فيصل الحسيني بالإجماع، وأمين سر حركة فتح في الضفة الغربية، ليبدأ مرحلة كفاحٍ جديدة من داخل أرض الوطن.
انتُخب عضواً في المجلس التشريعي الفلسطيني بعد الانتخابات العامة الفلسطينية عام 1996م، ممثلًا عن حركة فتح، كما أنه ترأس أول صداقة برلمانية فرنسية فلسطينية، وقد عمل على تعزيز العلاقات الفرنسية الفلسطينية من خلال العديد من النشاطات والزيارات الدولية المتبادلة.
حرص البرغوثي في إطار عمله في المجلس التشريعي، على ممارسة دور النائب الملتزم بقضايا الجمهور، حيث كان له دور في المجلس وفي لجانه المختلفة، كما أنه كان عضواً في لجنة التحقيق في شبهات الفساد، والتي انبثقت عن المجلس التشريعي عام1997م، وعمل في التجمعات السكنية المختلفة من خلال عقد الاجتماعات والندوات في القرى والمخيمات ومع المجالس البلدية والهيئات المختلفة والجمعيات المختلفة، كما ساعد عشرات التجمعات في مشاريع البنية التحتية، لاسيما وأنه أولى اهتماماً خاصاً لهذه المشاريع.
نجا البرغوثي من عدة محاولات اغتيال، حتى التي تم استهدافه فيها رفقة مساعديه بالصواريخ الموجهة، وتلك التي حاولت سلطات الاحتلال تنفيذها باستخدام سيارة مفخخة، وقد أبدى أريئيل شارون، رئيس وزراء الاحتلال آنذاك، أسفه لاعتقاله حياً، حيث قال “يؤسفني إلقاء القبض عليه حياً، كنت أتمنى أن يكون رماداً في جرّة”.
وعقّب شاؤول موفاز، وزير دفاع الاحتلال حينها، على عملية اختطاف القائد البرغوثي بقوله “إن اعتقال البرغوثي هو هدية عيد الاستقلال التي يقدمها الجيش للشعب الإسرائيلي، واعتقاله سيكون ضربة قاضية للانتفاضة”.
ومن أبرز الشهادات على تاريخ الأسير القائد، وتضحياته في سبيل نصرة الوطن والقضية، ما قاله “إلياكيم روبنشتاين” المستشار القانوني لحكومة شارون، حيث جاء في تصريحاته التي اتهم البرغوثي فيها بأنه مهندس إرهابي وقتها “لقد راجعت ملفاته طوال ثلاثين عاماً ووجدت أنه من النوع الذي لا يتراجع، ولذلك يتوجب أن يُحاكم بلا رحمة وأن يبقى في السجن حتى موته”.
وفي عشرين من مايو 2004م، أدانت محكمة الاحتلال المركزية في تل أبيب، البرغوثي بخمسة تهم بالمسئولية العامة كونه أمين سر حركة فتح بالضفة الغربية، وكون كتائب شهداء الأقصى الجناح العسكري الممثل لحركة فتح، وقد أصدرت المحكمة ذاتها، بحقه، في السادس من حزيران 2004م، الحكم بالسجن خمسة مؤبدات وأربعين سنة، وهي العقوبة القصوى التي طالب الإدعاء العام بها.
لم يخضع أو يخنع القائد مروان البرغوثي لحكم الاحتلال الجائر، حيث علّق في جلسة المحكمة ذاتها على الحكم مخاطباً القُضاة “إنكم في إصداركم هذا الحكم غير القانوني ترتكبون جريمة حرب، تماماً مثل طياري الجيش الإسرائيلي الذين يلقون القنابل على المواطنين الفلسطينيين تماشياً مع قرارات الاحتلال، وإذا كان ثمن حرية شعبي فقدان حريتي، فأنا مستعد لدفع هذا الثمن”.
سعى أبو القسام جاهداً، ومن داخل سجون الاحتلال لتوحيد صفوف حركة فتح ولململة شملها، وكذلك الفصائل الفلسطينية، فقد ساهم في نجاح اتفاق القاهرة، مما أدى لمشاركة معظم الفصائل بانتخابات المجالس البلدية وانتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني عام 2006م، والاتفاق على إعادة تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية وترتيب البيت الداخلي الفلسطيني، كما كان بشكل دائم يدعو إلى إصلاح حركة فتح ودمقرطتها ونبذ سياسة الإقصاء والتغييب فيها، دافعاً باتجاه عقد المؤتمر السادس للحركة من أجل انتخاب قيادة جديدة وإبعاد رموز الفساد.
ترأس البرغوثي، القائمة الموحدة لحركة فتح في الانتخابات التشريعية الفلسطينية الثانية، وفي التاسع من أيار 2006م، وقع البرغوثي نيابةً عن حركة فتح وثيقة الوفاق الوطني الصادرة عن القادة الأسرى في سجون الاحتلال، وقد تبنت منظمة التحرير الفلسطينية هذه الوثيقة باعتبارها أساساً لمؤتمر الوفاق الوطني، كما قرر الرئيس عباس طرح هذه الوثيقة للاستفتاء الشعبي في حال فشلت الفصائل الوطنية والإسلامية الاتفاق على برنامج سياسي موحد خلال فترة انعقاد المؤتمر.
حصل على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من معهد البحوث والدراسات التابع لجامعة الدول العربية، حيث كانت رسالته بعنوان “الأداء التشريعي والسياسي للمجلس التشريعي الفلسطيني ومساهمته في العملية الديمقراطية في فلسطين من 1996 إلى 2006″، والتي أتمّ كتابتها بين جدران سجن هداريم، ثم تهريبها سراً خلال مدة بلغت سنة كاملة عبر محاميه.
كان أبو القسام على موعد مع الإفراج عنه ضمن صفقة وفاء الأحرار، أو ما تُعرف باسم صفقة شاليط، والتي تمت مبادلة أسرى فلسطينيين من ذوي المحكوميات العالية في سجون الاحتلال بموجبها، مع الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، الذي تمكنت المقاومة الفلسطينية من أسره في قطاع غزة، إلا أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تراجعت عن قرار الإفراج عنه.
ويُشار إلى أنه أعلن عام 2020م، عن نيته الترشح للانتخابات الرئاسية الفلسطينية حال انعقادها، وفي عام 2021م، رفض آلية اختيار قائمة حركة فتح للانتخابات التشريعية، وشكّل قائمة مع الدكتور ناصر القدوة بمعزل عن قائمة الحركة.