كتب عدلي صادق: تُستعاد في رأس كل سنة، ذكرى الانطلاقة العسكرية الأولى، لحركة فتح، رائدة النضال الوطني المُعاصر. وفي الحقيقة، مر نحو ثُلث القرن، على الفتحاويين، وهم يسحبون من رصيد حركتهم التاريخي، لكي يؤكدوا على أحقيتهم في الريادة، وعلى دور فتح في قيادة العمل الوطني، على الرغم من توقف زمنها الأول، وتوغلها مُرغمة ومَقودة، في زمنها الثاني، الذي أضناها، علماً بأن هذا الزمن نفسه لا يشبه شيئاً ولا أحداً من ماضيها، وإنما يشبه عباس وحده ويرمز الى نوازِعه!
هي استعادة محرجة، تُقدم الماضي وتؤخر الحاضر أو تتجاهله، وكلما حان موعدها، تطفو عاطفة جياشة، مفعمة بالحنين الى الأول، والى التغاضي عن كل عوار في الثاني.
لا نعلم متى يحين موعد إحراز الحق في ممارسة النقد الموضوعي للتجربة كلها. ما نعلمه أن مآثر الماضي، ما تزال مَعيناً لا ينفد، من أسباب وبراهين الاعتزاز بالانطلاقة وبمشاوير ومآثر النبلاء الميامين الذين انطلقوا ومنهم كثيرون، بذلوا حياتهم على طريق الحرية، أو قضوا على أمل أن تستكمل الأجيال، هذه الطريق حتى النصر.
أصبح الحاضر مُضنياً أكثر مما كان عليه الماضي. فالوطنيون الفتحاويون، كانوا يأملون باعتزاز وسعادة، في زمن المَغرم، وقد أصبحوا يأملون بكل الحَرج ويغادرون الحياة وفي قلوبهم حسرة، مع الرجاء الصعب في أن تعود فتح الى سياقها، حتى ولو اقتصر ذلك على استعادة حيوتها ورواجها وشبابها ودورها السياسي والاجتماعي وروحها الرحبة، التي تستقطب الأجيال.
لم يتبق من فتح، اليوم، سوى صيغتها الائتلافية الأولى التي تناسب أحوالنا وشتاتنا واختلاف مشاربنا، وتبقى أيضاً عنوان الدار. الصيغة الآن، مُعلّقة في انتظار زوال القيود وانزياح السجانين، والثاني ـ عنوان الدار أو حضن الدار ـ ما يزال ينتظر الوافدين من الشباب والناشئة والكبار المهمشين، والوطنيين الذين أحبطتهم أحزابهم وأرهقتهم الأيديولوجيا المتعالية على الواقع.
في كل استعادة للذكرى، ينهض من جديد، الدليل على أن الشعب الفلسطيني لن يحيد عن أهدافه، مهما تفشى الإحباط وتغطرس العدو وتمدد. وهذا الدليل نفسه، هو الذي يحسم بالخزي، مآلات من يصنعون الخيبة ويثابرون على توسيعها لكي تشمل كل مناحي الحياة. فهؤلاء ليسوا إلا محض عابرين بلا مواهب ولا مناقب، وبعض كبارهم يتاجرون بالماضي لكي يتردى الحاضر العام أكثر فأكثر، فيفوزون باستثناء أنفسهم وأولادهم من شقاء المجتمع، وينعموا بما تبقى من المزايا الوظيفية، التي دفع شعبنا ثمنها دماً وآلاماً مستدامة لكي تتحقق.
من دواعي الأسف، أن لغتنا في كل استعادة للذكرى، تركز على التاريخ، وتتحاشى السياسة، من حيث كونها في أحد وظائفها ـ بالنسبة لنا ـ عملية ذهنية وحركية، لتعيين الحقائق واجتراح مقاربات الخروج من المأزق. بل إن البعض الطارئ، كان يستغل الذكرى، لكي يلعلع بكلام الفتنة، ويعمق الخصومتين الوطنية والفتحاوية، لأن المرتجى عند هذا البعض، هو المغنم الذي يريده من خيبة الحاضر.
الوطنيون الفتحاويون، يستعيدون الذكرى بما يليق بها من مستويات المشاعر والطموحات واللغة المحكية والخطوات المرتجاة: إعادة الوصل، وإنها القطع، بين الماضي والحاضر. واستعادة منهجية الحركة التي تخطت بلاءات المناطقة وذمائم الفوارق الاجتماعية والدينية. كذلك استدعاء الروح الأولى، التي لا غنى عنها في الحرب وفي السياسة، وتكريس ما سميناه “قانون المحبة” بدل منهجية الكراهية التي نجح عباس في زرعها حتى بين أعضاء الموالين خوفاً أو طمعاً، حتى ضاقت الحلقة الصغيرة المُقربة، عليه وعلينا.
في يوم الذكرى، يجدر بنا الحرص على مواجهة الواقع والمجاهرة بالإصرار على التغيير، من خلال وسائل ديموقراطية، يكفلها النظام في الحركة والقانون الأساسي في السلطة، وما دون ذلك غُثاء!